في القامشلي.. إسكات السلاح معيار المصداقية
عامر الحسن عامر الحسن

في القامشلي.. إسكات السلاح معيار المصداقية

لليوم الرابع على التوالي يستمر التوتر الميداني في مدينة القامشلي على إثر تبادل إطلاق النار بين تشكيلات عسكرية تتوزع السيطرة على أحياء المدينة، (قوات الدفاع الوطني التي تعمل تحت إمرة السلطات الرسمية السورية من جهة، وقوى الأمن الداخلي التابع للإدارة الذاتية) من جهة أخرى، ودخول هذه الأخيرة إلى مساحات واسعة من حارة طي، التي كانت خلال سنوات تحت سيطرة (الدفاع الوطني).

قوى توتير وقوى تهدئة

اللافت في المواقف المواكبة لهذا الحدث الخطير هو الموقف الشعبي المتعاظم ضد أية محاولة لتصعيد الموقف، ومن أيٍّ كان، والذي عبر عن نفسه بأشكال متعددة، بدءاً من النداءات والمناشدات الكثيرة في مواقع التواصل الاجتماعي، ومروراً بمبادرات قوى أهلية ومحلية مختلفة حاولت تطويق الموقف، من خلال التواصل مع الطرفين، وصولاً إلى بيان ثلاثة أحزاب سورية يدعو إلى إيقاف التصعيد، وفي حين نأى كل من طرفي الصراع المباشَرَين بنفسه عن مسؤولية تصعيد الموقف من خلال وسائل الإعلام والتصريحات الرسمية. تجاهل الإعلام الرسمي السوري الوضع الخطير القائم، وكأنّ الأمر لا يعنيه في المدينة وريفها، التي يعيش فيها مئات الآلاف من السوريين، سواء من سكانها الأصليين، أو من النازحين والمهجرين إليها من المناطق السورية خلال سنوات الأزمة، والتي تعكس بالأصل تعدداً دينياً وقومياً وعشائرياً معقداً... وعلى الرغم من تصريحات الطرفين التي أفادت لأكثر من مرة بالتوصل إلى اتفاق هدنة على إثر وساطة روسية، إلّا أن الاشتباكات سرعان ما كانت تتجدد بينهما، بالتوازي مع هجوم أنصار الطرفين على الدور الروسي، الذي نجح في مرات كثيرة سابقاً بمنع تصعيد الموقف، حسب تصريحات كلا الطرفين نفسهم!؟

مؤشران خطيران

ثمة مؤشران خطيران واكبا عملية التوتر الأمني في المدينة، الأول: كان النزوح الواسع للمدنيين الذي شهده (حي طي) وبعض الأحياء المتاخمة لمنطقة الاشتباكات، واستمراره حتى ساعة إعداد هذا التقرير، مما يؤسس لحالة احتقان شعبية، تستولد المزيد من الخطاب الشعبوي المساهم في توتير الأجواء.
المؤشر الثاني: العملية الغادرة التي استهدفت أحد نشطاء السلم الأهلي، تؤكد على أن هناك قوى تقف بالمرصاد أمام أية محاولة تهدئة، وبعيداً عن التحليل الجنائي لملابسات هذه العملية الغادرة، فإن شهيد السلم الأهلي كما غيره من السوريين الغيارى والشرفاء العاملين على صيانة وحدة النسيج الاجتماعي هو بالمحصلة ضحية البيئة السياسية والأمنية التي تتكون أثناء الصراعات البينية عادة، حيث تسهل الاختراقات والتدخلات الدولية والإقليمية، ويصبح الطريق مفتوحاً أمام كل القوى المشبوهة، لتمارس مثل هذه الأعمال الإجرامية بما يساهم في تصعيد التوتر والفوضى في ظل هيمنة منطق الفعل ورد الفعل على سلوك كل الأطراف.
وعليه، فإن تحييد المدنيين في الصراع وفتح الطريق لعودة الأسر النازحة إلى بيوتها، وتهدئة الأوضاع، والكشف عن كل ملابسات العملية الغادرة التي راح ضحيتها الشهيد هايس الجريان من خلال تحقيق علني وشفاف، تعتبر مهام ملحة لا تقبل التسويف والمماطلة، ودليل على جدية جميع الأطراف من عدمها في هذه المعمعة.
إن هذين المؤشرين، وقبلهما تصعيد الموقف واستخدام السلاح في الصراع بين السوريين، لا سيما ضمن المشهد الإقليمي والدولي الراهن، يحملان في طياتهما معانٍ خطيرة، وأولها: أن ما جرى حتى الآن هو مجرد بروفه لأمر لاحق، بات من الضروري التفكير فيه، وتأريضه من قبل كل القوى الحريصة على سورية وشعبها.

السلاح ليس حلاً

تؤكد تجربة الأزمة السورية منذ بدايتها، بأن السلاح لم يحل أية مشكلة، وإن أوهام القوة من أي طرف كان، وخصوصاً في ظل الاستقطاب الدولي والإقليمي الحاد يزيد من تعقيد الموقف أكثر فأكثر، ويزيد من معاناة السوريين عموماً، ويمنع من تحقيق الأهداف المعلنة لمختلف الأطراف، فلا السلوك الاستفزازي لعناصر الدفاع الوطني المتكئ على عقلية متشددي النظام في إدارة الازمة، والمحاولات الحثيثة بإعادة الأمور إلى 2011 أمراً مقبولاً، ولا أوهام البعض في الإدارة الذاتية بإمكانية فرض نموذجهم وبالطريقة التي يريدونها من طرف واحد، والغرق في دوامة التجاذب الدولي والإقليمي، ناهيك عن الدعوات المستمرة لاستبقاء الأمريكي باتت مقبولة. لا بل إن عقلية الطرفين، تساهم وبتخادم لافت في تكوين المناخ السياسي الذي يسمح بتوتير الأوضاع في أية لحظة، فإذا كان سلوك الطرف الأول بفرض ما يريد بالقوة في ظل الوضع الناشئ وهماً، ولا علاقة له بالمنطق السليم، فإن سلوك الطرف الثاني يتكامل ويتخادم على طول الخط مع فعل وسلوك الطرف الأول، وإذا كان الأول يتذرع باستعادة السيادة على كامل الجغرافيا السورية، فمن نافل القول بأن ذلك- وبكل تأكيد- لا يكون من خلال استخدام القوة، وإذا كان الطرف الثاني يتذرع (بحقه) في تعميم نموذجه الديمقراطي، وهو الذي يؤكد باستمرار على حرصه على وحدة الدولة السورية، فإن ذلك لا يكون من خلال الاعتماد على تصريحات لوبي الفوضى والتوريط الأمريكي المواكبة للأحداث، وما قبلها، وألاعيبه في تحقيق برنامجه المعلن بتحويل (سورية إلى مستنقع) إذا استطاع.
ليس من حق أيٍّ كان اليوم، وتحت أية ذريعة كانت، العبث بخريطة توزع نفوذ القوى السورية ومحاولة تغييرها بقوة السلاح، وخصوصاً في منطقة سكنية مكتظة بالسكان كالقامشلي، وإذا كان التفاهم والتوافق كحل مؤقت أمر ملح وضروي، فإن الوصول إلى حل سياسي شامل للأزمة وتطبيق قرار مجلس الأمن 2254 وصولاً إلى سورية جديدة موحدة ديمقراطية ينعم فيها كل أبنائها بحقوقهم، كان وما زال وسيبقى الحل الوحيد.

إسكات السلاح أولاً!

إن المعيار الوحيد للتثبت من مصداقية أي طرف فيما يتعلق بإعادة الأمان النسبي إلى مدينة القامشلي، والحفاظ على وحدة سورية، وأي مشروع ديمقراطي حقيقي، وحق السوريين بتقرير مصيرهم بأنفسهم بعيداً عن أية وصايات أو قوى نفوذ، هو في إسكات السلاح أولاً وقبل كل شيء، والتجاوب مع جهود الوساطة، والاستعداد لتقديم تنازلات متبادلة، وإعادة المواطنين إلى منازلهم وحماية ممتلكاتهم، ومنع التصرفات الاستفزازية، ومنع تحويل الجزيرة السورية إلى ساحة تصفية حسابات إقليمية ودولية، والكف عن مختلف الأوهام: سواء كانت أوهام إعادة القبضة الأمنية، أو أوهام استبقاء الأمر الواقع القائم، والإقرار قولاً وفعلاً بأن الحل السياسي على أساس القرار 2254 هو حلّ وحيد، وصولاً إلى التغيير الوطني الديمقراطي الجذري والشامل.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1015