انتهت معركة السيل الشمالي-2 وأعلن الرابح

انتهت معركة السيل الشمالي-2 وأعلن الرابح

بعد خمسة أعوام من بدء المشروع، وعامٍ من ضربات العقوبات الاقتصادية الأمريكية المكثفة عليه، فضلاً عن التصعيدات السياسية الأمريكية والأوروبية لعرقلته، أعلنت شركة غازبروم الروسية يوم الجمعة 10 أيلول عن استكمال بناء أنابيب خط السيل الشمالي-2 لتوريد الغاز المسال الروسي إلى أوروبا عبر ألمانيا بشكل تام، ليعلَن الإنجاز نصراً جيوسياسياً روسياً جديداً على الولايات المتحدة الأمريكية.

جولة صراع جديدة على جبهة أخرى

لكن رغم ذلك، فإن الصراع حول الخط لن ينتهي هنا، وإنما ستنتقل إحداثيات الصراع به من عرقلة بنائه السابقة، إلى الاتفاقيات والتراخيص اللازمة لتشغيله، وحول كمية الغاز التي سيجري ضخها به، وموعد بدء تشغيله، وإذا ما كان الجزء الأول من المعركة قد وقع على عاتق الجانب الروسي وسعيه بإكمال بناء المشروع رغم انسحاب شركة Allseas السويسرية منه إثر العقوبات الأمريكية والاستعاضة عنها بسفن بناء أخرى، فسيكون الشوط الثاني الآن على الجبهة الألمانية ومعركتها مع مؤسسة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من خلفها بمنح التراخيص والموافقات اللازمة لبدء الضح عملياً بأقرب وقتٍ ممكن، منها مثلاً التأكد من أن تكون الأنابيب وعملها متوافقة مع قواعد السلامة الأوروبية أو أحقية الضخ والتحكم بكمية بالغاز سواء من الجانب الروسي أو الألماني، وقد برزت أولى المؤشرات على ذلك حينما أفادت شركة غازبروم بأنها تتوقع أن يبدأ ضخ الغاز أواخر العام الجاري، قبل أن تغيّر من تطلعاتها لتشير إلى أنه من الممكن أن يؤجل ذلك حتى بداية العام المقبل، وقد أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ذلك بتصريحه أن الضخ قد لا يبدأ حتى بدايات عام 2022 قائلاً: «من جانب روسيا تم الانتهاء من جميع أعمال مد خط أنابيب الغاز، والآن هناك إجراء للحصول على التصاريح اللازمة من المنظم الألماني، الأمور تسير ببطء، إذ يمكن أن تصدر التصاريح في بداية العام القادم» وأكد أن الهجوم على مشروع السيل الشمالي-2 لن يتوقف.

على أي حال، من غير المتوقع أن يتعرض المشروع للتأجيل والتسويف لفترة طويلة أبعد من بدايات العام القادم، فحقيقة أن بناء المشروع قد انتهى لا يمكن العودة عنها، وحقيقة أن الغاز الروسي المورد عبر الأنابيب أفضل نوعاً وأرخص سعراً من بواخر الغاز الأمريكي وغيرها، بالتوازي مع الارتفاع غير المسبوق الذي تشهده أوروبا بأسعار الغاز حيث وصلت في 15 أيلول إلى 800 دولار لكل 1000 متر مكعب تجبر الأطراف الأوروبية جميعها على التنازل عن أي تعنت سياسي لا يخدم إلا الولايات المتحدة وحدها.

 

هل أوكرانيا خاسرة حقاً؟

كانت من ذرائع الخلافات الرئيسة على مشروع السيل الشمالي-2 مزاعم ضرره على ترانزيت الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أوكرانيا، وبالمثل عبر بولندا بدرجة أقل، حيث تشير التقارير المختلفة إلى أن كييف تستفيد من ترانزيت الغاز الروسي سنوياً بنحو 3 مليارات دولار، وقد اعتبر الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي أن هذا الخط يعد هجوماً على الاقتصاد الأوكراني وعلى تمويل جيش البلاد من هذه المليارات نفسها، مطالباً بحماية أمريكية وضمانات بأن مشروع الغاز الجديد لن يؤثر على أرباح ترانزيت بلاده رغم عدم تطرق موسكو بأي شكل إلى أنها قد توقف عقودها مع كييف، وقد أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن موسكو ستمدد عقدها مع كييف قبيل انتهائه في 2024، ولكنه قد يكون بحسب الحاجة، وليس بكمية ثابتة، بالمثل من بولندا، مما يفتح الباب أمام كلٍّ من أوكرانيا وبولندا إلى التنافس والمزايدة فيما بينهم على كمية الغاز المطلوبة ومدة العقود الجديدة.

بالحقيقة لن يؤثر السيل الشمالي-2 على إيرادات كييف من الترانزيت، فالسيل الشمالي-2 لا يُشبع السوق الأوروبية بطبيعة الحال، وعليه فلم تكن الورقة الأوكرانية سوى ذريعة ومحاولة سياسية للضغط على المشروع الذي يعد مربحاً للجانب الروسي، وللشركات الصينية من خلفه التي تعمل في حقول استخراج الغاز، وعلى القوة الجيوسياسية الجديدة والعلاقات الأمتن التي يتيحه لهما مع الجانب الأوروبي على حساب واشنطن وتراجعها.

 

موضوعة الأمن الأوروبي

كانت واحدة من الذرائع الأخرى المتداولة سياسياً وإعلامياً تعرُّض أمن الطاقة الأوروبي للخرق والخطر مع النفوذ الروسي الذي سيتزايد مع بدء عمل السيل الشمالي-2، لكن لم يعطِ أي أحد تفسيراً واضحاً لطبيعة هذا الخطر، بل على العكس منه، فقد ظهر وضوحاً خلال ملف السيل الشمالي-2 نفسه بأن الطاقة الأوروبية والقرارات السياسية الأوروبية هي أساساً مخترقة ورهينة الهيمنة الأمريكية نفسها، والتي تضغط الأوروبيين نحو تنفيذ مصالحها على حساب مصالحهم، وما من مثال أبسط وأوضح لهذا الأمر غير مشروع خط الغاز الروسي نفسه ذي الجودة الأعلى والسعر الأدنى والتوريد الأسرع عبر الأنابيب بالمقارنة مع الأمريكي الأسوأ والأغلى والأبطأ، وعليه فإن الخاسر الوحيد بهذا الأمر هي واشنطن، وإن كل خطر الأمن الأوروبي الذي تتبجح به وبحمايته هو تحديداً خطر كسر هيمنتها عليه وتحكمها به وحماية هذه الهيمنة.

من جهة أخرى فإن المقارنة والمقاربة ما بين الأمريكي والروسي بهذه «الهيمنة»، والتي يغرقنا بها المحللون الغربيون، تأتي من النظرة القديمة الآتية من تربية سياسات الميزان الدولي السابق وفق معادلة: إما هيمنة أمريكية أو هيمنة ما أخرى روسية مثلاً، وفق عقلية القطب الواحد والأوحد، ولكن المقارنة الحقيقية والاختلاف الأساسي يكمن تحديداً بين: علاقات اقتصادية-سياسية قديمة وفق منطق الهيمنة والتبعية ممثلةً أمريكياً، وعلاقات اقتصادية-سياسية جديدة وفق منطق التعاون والتكافؤ ممثلةً روسياً وصينياً، وعليه فإن انفكاك العلاقات الأوروبية-الأمريكية وتمتين العلاقات الأوروبية-الروسية يعني تحديداً إنقاذ أمن الطاقة الأوروبي من مخالب واشنطن واستقلاله عنها ويتيح للأوروبيين إمكانية حقيقية لتمتينه وحماية أنفسهم بالفعل.

آخر تعديل على الثلاثاء, 21 أيلول/سبتمبر 2021 14:23