سيرجي كارا موزا: أصل فكرة «المليار الذهبي»
سيرجي كارا مورزا سيرجي كارا مورزا

سيرجي كارا موزا: أصل فكرة «المليار الذهبي»

هذا العام، استخدم بوتين مصطلح «المليار الذهبي». ويجري استخدام هذا المصطلح الآن على نطاق واسع. وقد أدخله للتداول الكاتب أ. كوزميتش [المترجم: كوزميتش هو اسم مستعارٌ استخدمه المحامي في القانون الدولي تسيكونوف الذي اغتالته المخابرات المركزية الأمريكية في 20 أيار 1991] وذلك في مقالته «روسيا والسوق (في ضوء القانون السوفيتي والقانون الدولي)» المنشورة في العدد الرابع لعام 1990 من مجلة «الأحد Воскресение». وأيضاً في كتابه «مؤامرة الحكومة العالمية (روسيا والمليار الذهبي)».

(28/10/2022)
ترجمة: قاسيون

في التسعينيات، حارب الليبراليون الزائفون المصطلح بنشاط، ووصفوا كل شخص مهتمٍ به بأنه من منظري المؤامرة. [المترجم: «الليبراليون الزائفون» أو «псевдолибералы» هو اصطلاح روسي أطلق على المجموعات التي حكمت روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي مباشرة].
في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأ استخدام المصطلح على نطاق أوسع بفضل المنشورات في صحيفة «روسيا السوفييتية» وغيرها من المنشورات الوطنية. لكن في ويكيبيديا، لا يزال يُصنف على أنه ضمن نظرية المؤامرة.

1year2000

عام 2000، كتبت: «إن مفهوم "المليار الذهبي"، الذي يعني الفصل المصطنع لـ "الشعب المختار" الجديد عن البشرية، هو يوتوبيا. ولدت هذه اليوتوبيا استجابة للأزمة العامة الحالية للصناعة والحضارة الصناعية. الأساس الفلسفي لهذه اليوتوبيا هو الفردية المتشائمة، التي تكسر الروابط المجتمعية للتضامن الإنساني، وترفض أخلاقيات الأخوة الدينية والخلاص الجماعي. أولئك الذين يعتبرون أنفسهم من بين "المليار الذهبي" يشعرون أكثر فأكثر وكأنهم قلعة محاصرة، مهددة من قبل حشد سريع التزايد من الفقراء الجياع والساخطين. إن يوتوبيا "المليار الذهبي"، التي لا يمكن تحقيقها من حيث المبدأ، تؤدي إلى تزايد العدوانية - أولاً في الأيديولوجيا والثقافة، ثم في المجالين السياسي والعسكري. هناك بالفعل كل الدلائل على ترسيخ أيديولوجية فاشية عالمية جديدة، يمكن أن تؤدي إلى أكثر الأعمال تدميراً. إن قبول أو عدم قبول فكرة "المليار الذهبي" هي مسألة اختيار أخلاقي وحتى ديني، لأن هذه الفكرة معادية للمسيحية بشكل جذري، وكذلك معادية للإسلام وحتى معادية للبوذية بشكل أكبر. في موجة الإيديولوجيا النيوليبرالية والأوروبية المركزية التي اجتاحت روسيا، سقط جزء من المثقفين، على ما يبدو، في إغراء هذه اليوتوبيا وتحولو إلى أبواقٍ دعائية لها. كان لهذا الجزء تأثير كبير على النظام السياسي في ذلك الوقت. فيما يتعلق بروسيا، هناك العديد من الدلائل على أن الجزء من النخبة العالمية الذي يحدد السياسة الاقتصادية والعسكرية ويسيطر على وسائل الإعلام لا يرى بأي حالٍ من الأحوال الشعب الروسي من بين أولئك الذين لديهم فرصة الدخول في قارب النجاة مع "المليار الذهبي"».

عام 1900، رسم الناشر الروسي المعروف م. مينشيكوف الصورة التالية: «من أوروبا، كما من عش النسر، تنطلق الحيوانات المفترسة البيضاء - المستعمرون المنتشرون في البلدان والقارات البعيدة، وحيثما ظهروا، تسقط حياة البشرية. كان النصف الأول من القرن [التاسع عشر] بأكمله، عبارة عن مذبحةٍ مستمرة للسلالات السوداء والحمراء والبنية والخلاسية. بقسوة صيادي الحيوانات البرية، قام البيض بإمساك الزنوج وتحميل أساطيل كاملة معهم لشحنها إلى المستعمرات؛ عشرات الملايين من الزنوج الأقوياء والأصحاء ماتوا في عبودية قاسية، وعشرات الملايين الآخرين ماتوا بسبب المرض واليأس، أو مباشرة بأسلحة المنتصرين. لقد دُمِّرت إفريقيا بشكل رهيب في هذا القرن... أخيراً تم تقسيم القارة الأفريقية الشاسعة بين الأوروبيين، وفي كل مكان، في ممتلكات المسيحيين الأكثر ثقافة، تم إنشاء استعباد السكان الأصليين، الوحشي في قسوته. مارس الفرنسيون والألمان والإنجليز والهولنديون (البوير) الضراوة نفسها، وهذه الظاهرة - واحدة من أكثر التنبؤات إثارة للقلق بما يخص القرن العشرين».

إن الأزمة العميقة التي تعيشها روسيا اليوم هي جزء من أزمة التصنيع العامة. ويمكن اعتبار المذهب الصناعي industrialism (ميتا-إيديولوجية) الغرب في العصر الحديث، أي ميتا إيديولوجية الحضارة الغربية الحديثة، التي نشأت على أنقاض المجتمع التقليدي في العصور الوسطى كنتيجة لسلسلة من الثورات المتعاقبة (الثورة العلمية والإصلاح [المترجم: المقصود الإصلاح الديني-مارتن لوثر] والثورة الصناعية وسلسلة الثورات السياسية) التي اجتاحت أوروبا ومجالاتها الثقافية.

كانت القناعة العميقة بأن «الناس الذين من عرقٍ مختلفٍ (أو ثقافة مختلفة، دين مختلف، إلخ) يمثّلون، إنْ لم يكن نوعاً بيولوجياً مختلفاً، فعلى الأقل هم نوعٌ فرعيٌ مختلفٌ – ليس قريباً من النوع الأوروبي)... كانت هذه القناعة ضروريةً للغاية بالنسبة للأوروبي خلال فترة الاستعمار، لتبرير القمع والاستعباد والتدمير المادي للشعوب الأخرى.

العنصرية متأصلة بعمقٍ في نسيج الثقافة الأنجلوسكسونية لدرجة أنه حتى اليوم، ورغم الرفض «الرسمي» لها، ورفضها العلني في إعلان اليونسكو بشأن العرق والدعوة لمراجعة المناهج الدراسية بهذا الخصوص، إلا أنها [العنصرية] تستمر بالتسرب من جميع الشقوق.

عندما يقول الناس «عنصرية»، تتبادر إلى الذهن المنظمات البروتستانتية البيضاء مثل كو كلوكس كلان أو محاكم الإعدام خارج نطاق القانون. مع مثل هذه الأمثلة «الحادة» من الصعب مناقشة القضية. دعونا نفكر بشكل أفضل في مواقف الشخص العادي الوسطي غير القادر شخصياً على إيذاء ذبابة... فيما يلي بعض المواقف...

أتذكر أنه في وقت أزمة الخليج، تنافس سياسيون محترمون مع بعضهم البعض قائلين: «يجب تحرير الكويت بأي ثمن!». لن نقف عند الطريقة الشمولية العبثية في صياغة هذا القول (ماذا يعني «بأي ثمن»؟ على سبيل المثال، على حساب فناء البشرية؟!). بكل الأحوال، فقد تكشّف الثمن بعد عاصفة الصحراء التي راح ضحيتها حوالي 300 ألف عراقي وعدد من الأمريكيين في حوادث سير [المترجم: الرقم المعلن أمريكياً هو 472 قتيل أمريكي في عاصفة الصحراء، وربما يستخدم الكاتب تعبير حوادث سير للدلالة على ضآلة عدد القتلى الأمريكيين مقارنة بالعراقيين].
أعلنت الصحافة بفخر أن «تكلفة تحرير الكويت كانت بفضل التكنولوجيا الحديثة ضئيلة للغاية». هذا يعني أن مفهوم «التكلفة» يشمل فقط دماء «الدرجة الأولى». أي أن «الحضارة»، وبهدوء مطلق، ترفض الفكرة المسيحية بأن الناس هم حاملو صورة الله، وبهذا المعنى، هم متكافئون. هذه خطوة ذات أهمية كبيرة، وربما خطوة لا رجعة فيها نحو النظام العالمي الجديد (أو الحرب ضده).

 now-etm-al2 

الآن يتم النظر إلى حالات أخرى بشكل مختلف. فلنأخذ تشيلي: كل موت هو مأساة. لقد شهدنا جميعاً موت فيكتور خارا، لكنني لا أتحدث عنه وعن رفاقه البالغ عددهم ألفي شخص الذين قتلوا على يد بينوشيه. أنا أتحدث عن الأسس التي يقيّم وفقها الديمقراطي الأوروبي العادي الأمور. لمدة عشرين عاماً، استمر [الأوروبي] في شتم بينوشيه – ولكنه لم يرغب في سماع أنه ليس بعيداً عن تشيلي، في غواتيمالا، قُتل 100 ألف شخص، معظمهم من الفلاحين الهنود، خلال الثمانينيات. علاوة على ذلك، أدرج قادة أوروبا غواتيمالا ضمن الدول الديمقراطية وكانوا سعداء بالقول إنه بعد الاستيلاء على نورييغا ووصول بينوشيه إلى احتلال سدة الزعامة في بلد إضافي في أمريكا اللاتينية، لم يبق سوى بلد واحد غير ديمقراطي - كوبا. إنّ إبقاء خمسة معارضين قيد الاعتقال وعدم إجراء انتخابات متعددة الأحزاب أمر غير مقبول أكثر من تصفية جماهير الفلاحين الذين لا يستطيعون حتى قراءة قرارات الأمم المتحدة.

ومع ذلك، فإنه حتى الانتخابات الحرة، لن تنقذ أمة توقفت عن إرضاء «الديمقراطية». وهكذا، استقبل البيت الأبيض دائماً سافيمبي الدموي كفارس للنضال من أجل حرية الشعب الأنغولي. أخيراً، أجريت الانتخابات، ويا للمفاجأة، خسر سافيمبي. هل استقال مثل الساندينيين في نيكاراغوا؟ لا، مدعوماً ومسلحاً من الغرب، أقام حمام دم في أنغولا. هل أرسلت الولايات المتحدة جنوداً لمعاقبته وحماية إرادة الناخبين المعبر عنها ديمقراطياً؟ طبعاً لا، فالفكرة بحد ذاتها تبدو سخيفة. تعني الديمقراطية تأكيد المواطنين على الاختيار الذي يتم في مكان ما في الأندية التي خلف الحدود. كم يبدو النظام الاستبدادي بسيطاً وواضحاً مقارنة بذلك؛ فهو لا يجبر الشخص على الكذب على نفسه.

ولنتذكر الحروب بالوكالة لكل من إنجلترا والولايات المتحدة. ولنقرأ إدواردو جاليانو: «الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية» حول مذبحة باراغواي. من الواضح أن أوروبا الغربية وأراضيها حضارة عظيمة! لكن من المدهش أنه حتى الآن تقدم الكتب التاريخية تدمير باراغواي في القرن التاسع عشر باعتباره انتصاراً عظيماً للحضارة الأوروبية. هناك أيضاً الخاصة الرأسمالية في «أصالة النظرة العالمية في كراهية الإنسانية». أو لنتذكر كيف أنه في عام 1898، بالقرب من الخرطوم، دمرت مفرزة بريطانية مسلحة ببنادق مكسيم الآلية 11000 جندي من جنود المهديين. خسارة البريطانيين كانت 21 شخصاً. تذكر الشهود أنها لم تكن معركة، بل إعداماً.

يقول خطاب السناتور ألبرت بيفريدج (Albert Beveridge) الشهير عام 1900 عن الولايات المتحدة: «لقد خلقنا الله أسياد العالم ومنظميه، ولنكون أسّ النظام في عالم الفوضى. لقد طغى علينا بروح التقدم، وسحق قوى رد الفعل في جميع أنحاء الأرض. لقد جعلنا ضليعين في الحكم لنحكم الأمم المتوحشة الواهنة. باستثنائنا، لا توجد قوة أخرى قادرة على منع العالم من العودة إلى ظلام البربرية. من بين كل الأجناس، جعل الشعب الأمريكي شعبه المختار، وكلفنا بقيادة تجديد العالم. هذه هي المهمة الإلهية لأمريكا».

كما كتب الفيلسوف الإنجليزي زيغمونت باومان Zygmunt Bauman فإنّ هذا العالم الجديد يولّد طرازاً جديداً من الوجود للشخصية الإنسانية، حيث منذ اللحظة الأولى لا يمكن لأحد أنْ يختبأ أو يحتمي: فـ«الضربات تحل على الرؤوس كما لو كانت بسبب نزوة شخص غير معروف، لذلك من المستحيل معرفة من هو محكوم عليه ومن سينجو. عدم اليقين في أيامنا يمكن أن يكون قوة فردية كبيرة. إنها تقسّم بدلاً من أن توحّد، وبما أنه من المستحيل معرفة من الذي قد يأتي في القمة في هذا الموقف، فإن فكرة "مجتمع المصالح" تصبح غامضة بشكل متزايد، وفي النهاية حتى غير مفهومة. تم تصميم مخاوف اليوم وهمومه وأحزانه بطريقة تجعلك تعاني وحدك. لا يتم إضافة مخاوفك/همومك/أحزانك إلى مخاوف/هموم/أحزان الآخرين، ولا يتم تجميعها معاً في "قضية مشتركة"، وليس لها "عنوان طبيعي" تتجه إليه. هذا يحرم موقف التضامن من مكانته السابقة كتكتيك عقلاني».

 3clintonapo

اعتذار كلينتون فعلٌ رمزي، لكن الفضائح الأخرى قد بدأت [المقصود اعتذار كلينتون في فضيحة لوينسكي]. على سبيل المثال، تم الإبلاغ في سرقسطة (إسبانيا) عن نقل مخزونات من الأسلحة البكتريولوجية من باكستان إلى مستودعات القاعدة العسكرية الأمريكية. جمعت الصحف الإسبانية المعلومات المتاحة في الولايات المتحدة نفسها. وفقاً لبيانات عام 1993، لم يتم تدمير السلاح البكتريولوجي على النحو المنصوص عليه في الاتفاقية مع الاتحاد السوفيتي، ولكن تم نقله إلى قاعدة إدجوود في ماريلاند. في الوقت نفسه، أصيب أكثر من خمسمائة فني من هذه القاعدة بالأمراض المعدية. بدأت الاحتجاجات في آسيا. قام أستاذ الطب بجامعة ماريلاند ريتشارد هورنيك بفحص السجناء للكشف عن الكوليرا والتيفوئيد والإنفلونزا والدوسنتاريا والملاريا لسنوات عديدة. بعد الفضيحة، وعد هورنيك قائلاً: «من الآن فصاعداً، ستستمر التجارب في دول أخرى»!

تم إرسال بروفيسور آخر، هو ديفيد نلين، إلى لاهور (باكستان)، بروفسور متخصص في البعوض. وقال للصحافة بصراحة: «بالنسبة لدراسة انتقال الأمراض المعدية عن طريق الحشرات، استخدمنا العديد من القرويين الفقراء بالقرب من لاهور مقابل تعويضات متواضعة». تسرد مجلة مختبر نلين لعام 1989 تجارب على 325 باكستانياً. في الوقت نفسه، بعد أن أصيبوا بالبعوض، لم يتلقوا أي رعاية طبية. في الصفحات 272-286 من التقرير العلمي، تم وصف تجربة الإصابة بفيروس التهاب الدماغ المحمول على أنثى البعوض بالتفصيل. تم تركيب حاضنة بسعة 20000 بعوضة من هذا النوع في اليوم في لاهور. ثم نشأ الصراع في باكستان.

يجب ألا ننسى قسوة السلطات الغريبة (خاصة الشرطة). إنّ وحشية الشرطة موجهة ضد جميع الأشخاص غير المرغوب فيهم. لذلك، فجأة، لسبب ما، يعاملون بعض الطوائف بقسوة - على الرغم من وفرتها الهائلة. أتذكر أنه في السبعينيات في وسط فيلادلفيا تم قصف منزل من طائرة هليكوبتر، حيث كانت تعيش إحدى الجماعات الطائفية. ثم لم يستطع أحد تفسير معنى هذا العمل. كما أن سلوك الشرطة في قضية طائفة الواعظ كوريش عام 1993 لا يمكن تفسيره... نعم، صحيح أنهم طائفيون وظلاميون - حبسوا أنفسهم في مزرعة وبدأوا في انتظار نهاية العالم، وقررت الشرطة وقف هذه الظلامية. ولكن كيف؟ أولاً، أذهلوا الطائفيين خلال أسبوع بموسيقى الروك من مكبرات صوت قوية. وبعد ذلك قاموا بالهجوم - فتحوا النار على المزرعة وبدأوا في دك الحائط بدبابة. كنت حينها في الولايات المتحدة الأمريكية وشاهدت ذلك على الهواء مباشرة – وقد كان عرضاً تشهده البلد بأسرها. اندلع حريق، واحترق جميع سكان المزرعة تقريباً - 82 جثة. بعد عام، برّأت المحكمة 11 طائفياً من الناجين، واتضح أنه لم تكن هناك جناية قد ارتكبوها. في المحاكمة، استمعوا إلى تسجيلات صراخ النساء والأطفال الذين توسلوا لعدم إطلاق النار عليهم. لكن هذا، على ما يبدو، نظام خاص، ومن الصعب علينا فهمه.

في دراسة له حول النخبة المثقفة الأوروبية، في ثلاثينيات القرن الماضي، رأى المهاجر الروسي جي بي فيدوتوف أن ثقافة الغرب كانت مهددة وأن «عمليات البحث المأساوية عن نظرة شاملة للعالم» بدأت في الظهور. يكتب فيدوتوف: «لم تكن البرجوازية خالقة النزعة الإنسانوية، ولكن مصيرها جعلها على أهبة الاستعداد لاعتناقها. إنها مرتبطة معها بخطيئة مشتركة وتعيش معها تحت تهديد عقاب كابوسي... ومع ذلك، فإن إرث البرجوازية هذا بعيد كل البعد عن أن يكون ضاراً بالاشتراكية... فما الذي يستحق النظر فيه في لقاحٍ واحدٍ تستخدمه البرجوازية في طريقة تكوين نظرتها للعالم! على العكس؛ هذا سم حقيقي دخل جسد الاشتراكية - منذ ولادتها».

يكتب الفيلسوف الليبرالي ج. غراي: «هذا العداء الغربي الانعكاسي اتجاه القومية الروسية... له تاريخ طويل حيث يتم اعتبار الشيوعية السوفيتية من قبل الكثيرين كتعبير عن الثقافة القمعية بطبيعتها للروس».
بالذات الهوية الحضارية لروسيا هي ذات صلة في سياق التهديدات الموجهة لها. يدخل العالم فترة تحولٍ في المجتمع الصناعي، وتشن حروب "هجينة". أحد أهدافهم الرئيسية هو إقناع الجماهير بأن المحارب الآخر ليس حضارة، أو أن وسائل الإعلام تبث "نظرية" مفادها أن القوة المعادية هي حضارة معيبة أو جزء منحط ومتخلف من الغرب. إذا تم تحقيق ذلك، يفقد الخصم جزءاً كبيراً جداً من موارده الرمزية أو يتوقف عملياً عن أن يكون مستحقاً لانطباق القانون عليه. إن الدرجة القصوى من حرمان أي بلد من مكانة الدولة المتحضرة هو وصفها بأنها "دولة مارقة" أو، كما في حالة الاتحاد السوفيتي، "إمبراطورية شريرة". تنجح مثل هذه الحملات عندما تظهر مجموعة اجتماعية مؤثرة في البلاد تقاتل إلى جانب العدو.

في ندوة في البرازيل عام 1992، عشية منتدى ريو 92، عند مناقشة "كتلة هايفيتز"، قال العالم الصيني هو تاو يي لزملائه الغربيين بصراحة: «ما تقصدونه واضح تماماً: الناس الفائضون الحاجة، يمكن فقط التعامل معهم بأن يتم قتلهم».
لقد شاركت في هذه الندوة، وبقي لدي انطباع قاسٍ للغاية: العلماء المشهورون، الأشخاص الأذكياء واللطفاء، عند مناقشة الموضوع الديموغرافي، تحولوا فجأة إلى متعصبين، استحوذ عليهم الرعب الغامض. «هذه الجحافل الجائعة تتكاثر بلا توقف! لا يوجد أوكسجين متبقٍ على الأرض! يجب القيام بشيء ما على الفور!».

لطالما كان «عداء الغرب»، غير محصورٍ بالروس فقط. كتب مؤرخ المركزية الأوروبية سمير أمين: "تدعي الثقافة السائدة الحديثة أنها تستند إلى العالمية الإنسانية. لكن المركزية الأوروبية تحمل في حد ذاتها تدمير الشعوب والحضارات التي تقاوم توسع النموذج الغربي. بهذا المعنى، النازية، بعيداً عن كونها انحرافاً معيناً، فهي موجودة دائماً في شكل كامن. لأنها ليست سوى تعبير متطرف عن أطروحات المركزية الأوروبية. إذا كان هناك طريق مسدود، فهو الطريق الذي يتم دفع الإنسانية الحديثة إليه بواسطة المركزية الأوروبية».


يشمل مجال «الكلمات»، أي المعالجة الثقافية للأشخاص، موجة المركزية الأوروبية التي ظهرت في الثمانينيات - في أعماق أيديولوجيتها العنصرية، والتي وفقاً لها لا توجد سوى حضارة واحدة (هي الغربية)، وكل الآخرين قد تخلفوا وراءها ببساطة. تم تجسيد أفكار المركزية الأوروبية في أشكال متنوعة - من الفلسفة العالية (فون هايك) إلى أكثر أشكال العنصرية المبتذلة في أفلام كوبولا وتقاريره التلفزيونية.

جرت عملية تلقين كثيفة في الغرب خلال عملية «إعادة الأمل» في الصومال [1992-1993]. لقد ألهم التلفزيون بشكل ضمني الإنسان العادي في الغرب فكرة أن الأفارقة، على الرغم من أنهم يشبهون الناس، إلا أنهم سلالات أقل شأناً وعاجزة. وأظهر التلفزيون بانتظام أطفالاً صوماليين تعاني أجسادهم نقصاً بروتينياً مدمراً، وأظهرهم وهم يموتون أمام الكاميرا مباشرة من الجوع. في مكان قريب، كمعيار لشخص حقيقي، تم عرض جندية مشاة وردية الخدود أو فتاة ساحرة من الأمم المتحدة. من خلال تعويد المشاهدين على صورة الأفارقة المحتضرين، لم يجعل التلفزيون الرجل الأبيض أكثر تضامناً على الإطلاق. على العكس من ذلك، في العقل الباطن (وهو أكثر أهمية من الكلمات الرخيصة)، يتم تأكيد الفكرة العنصرية للأفارقة كنوع فرعي أدنى. نحن بحاجة إلى الاعتناء بهم (مثل الطيور العالقة في بقعة زيت)، وإرسال بعض الحليب المجفف لهم. ولكن أن يتم التفكير أخلاقياً؟ بهؤلاء الأطفال النحيفين الذين يبتسمون بغباء قبل أن يموتوا؟ أثار طرح السؤال نفسه حيرة لدى المفكر التقليدي.

من البرامج الثقافية المهمة التي أعدت المواطن العادي لتقنيات جديدة للسيطرة على "الفقراء" عرض حرب الخليج - وليس الحرب بذاتها، ولكن عواقب الحظر على التجارة مع العراق. في الوقت نفسه، نقلت الصحافة بدقة معاناة السكان، وفيات الرضع بسبب نقص الغذاء والدواء، ونشرت صوراً مروعة لأكوام من الأطفال المتوفين مكدسة في صناديق الأحذية. لقد كانت تجربة: هل يقبل الغربي بمثل هذه المعاملة للأشخاص الذين يواجهون تحديات في "العالم الآخر"؟ بعد كل شيء، كان الحظر يعني أن الغرب انتحل لنفسه الحق في أخذ المدنيين رهائن بشكل جماعي وتدميرهم من أجل الضغط على العدو. جريمة حرب نموذجية. أظهرت التجربة أن الغالبية العظمى من الطبقة الوسطى في الغرب تتفق مع السياسة الإجرامية تجاه "المتوحشين". هناك العديد من التأكيدات الأصغر على ذلك.

تم إدخال أخلاق مزدوجة عن عمد في ثقافة الغرب: تنقسم الإنسانية بتحد إلى نوعين فرعيين – المختارون والأتباع. هذا أيضاً مقبول في الوعي اليومي: فالشخص العادي ساخط بصدق على القمع الذي تمارسه بغداد ضد أكراد بلاده، لكنه لا يبالي تماماً بالتدخل في العراق من قبل جيش كبير من حلف الناتو، والذي يقوم بغارة عقابية ضد الأكراد في العراق.

يمكننا أن نفترض أنه في الوقت الحالي، يكون المجتمع الغربي مهيأ نفسياً وعقائدياً لأي أعمال تدميرية ضد "جحافل الجياع الغاضبة" الذين يقررون بطريقة ما أن يهددوا ازدهار "المليار الذهبي".

كثيراً ما يقال: الحضارة على مفترق طرق. ما هو الخيار؟ الصمت بحد ذاته علامة مزعجة للغاية. وفي الوقت نفسه، فإن الخيار "محسوب" ببساطة. يمكن التغلب على الأزمة بطريقتين. الأولى هي كما يلي: "يتخطى" العالم مرحلة «المجتمع الصناعي» بموقفه المفترس اتجاه الطبيعة والإنسان، وباتجاهه نحو الزيادة اللانهائية والتي بلا معنى للاستهلاك. أي في "الجوهر"، أن ينتقل العالم إلى المجتمع ما بعد الصناعي الخالي من السوق، مع استعادة التضامن البشري والجمع بين أشكال الاقتصاد والاستهلاك الصديق للبيئة والاقتصاد وبين أحدث العلوم والأخلاق. الطريقة الثانية: التبعية الكاملة للأرض كلها كمصدر للموارد لـ"العالم الأول"؛ تقسيم البشرية إلى نوعين فرعيين في حرب مميتة وباردة - بحيث يشكل الفائزون "المليار الذهبي"؛ هذا "المليار الذهبي" سيمنح نفسه هويته العرقية الخاصة الفوق وطنية وستكون له أخلاق وحقوق أخرى مختلفة تماماً عن "المهزومين"؛ سيتم تنظيم إعادة إنتاج السكان "المهزومين" على أساس "المصالح الإنسانية العامة" (في الواقع، ستنخفض بسرعة). سيتم التحكم في سلوك "المهزومين" عبر تركهم للعيش بأقسى الوسائل، الموجودة "على الجانب الآخر الفاصل بين الخير والشر".

تدفع النيوليبرالية نحو الخيار الثاني. وهذه ليست مجرد مصلحة اقتصادية وجيوسياسية، فهذا الاختيار فلسفي، وهو أيضاً ديني في حد ذاته. إنه يعني "خلق" رجل "المليار الذهبي"، "سوبرمان" جديد - استكمال المشروع الصناعي (العملاق). اقترح الزعيم الروحي للنيوليبرالية، ف. فون هايك، الحاجة إلى سحب الغرائز الإنسانية الطبيعية للتضامن والرحمة. هذه الخطوة الجديدة نحو الحرية تتعارض مع الطبيعة البيولوجية للإنسان، الذي لعبت فيه غريزة المجموعة الفطرية وتلعب دوراً كبيراً. خدم قمعه المصطنع كسبب مهم للأمراض العقلية الاجتماعية الشديدة (إدمان المخدرات والذهان) والتفشي المدمر الدوري للعودة إلى التضامن الجماعي في شكل الفاشية. يتم الآن إظهار العديد من الأشياء الجديدة لنا من خلال أساليب النازيين في أوكرانيا.

وهكذا، فإننا نتحدث عن خيار، وهو ما يعني الخلق الواعي من قبل الغرب للأيديولوجية والهياكل الاقتصادية والعسكرية والسياسية للفاشية العالمية. والجديد هو أن هذه ليست النازية المعتادة - فاشية الدولة القومية الواحدة. هذا هو حشد "المليار الذهبي" كعرق عالمي جديد من السادة الذين يحاولون منع تهديد "ثورة الفقراء".

 

آخر تعديل على الخميس, 03 تشرين2/نوفمبر 2022 16:31