مطبّات: على قد القانون

هكذا ولد الرجل، خلقه الله على هيئة مسؤول، البشارة الأولى منذ ولادته، سمات القائد.. المتنفذ، وتضرع الأم المسكينة بأن يرسل الله لها ولداً ينقذ العائلة من الوحل الذي توارثته، فالفقر لا يلد سوى الفقر، وقد ضاقت عليها الدنيا فلم تجد معيناً إلا الدعاء.

جاء الولد، قوي البنية، محمر الخدين رغم أن الوالدة تشكو من فقر الدم، سريع الحركة، وكما تروي الأم (مسك البز) من أول دقيقة، أي أنه (يا ولدي) جاء جائعاً إلى الحياة، كما أن كفيه مفتوحان، ليس بما يشبه الدعاء، بل الطلب.

كبر الولد، كان له من السيطرة والقدرة على قيادة من هم في عمره طاقة إبداعية، جحافل من الزعران كانوا يأتمرون بأمره، لم يخلُ بستان في القرية من (غزوة)، كان لصاً قاسياً، أشجار المشمش والجوز والتوت الشامي تتكسر بعد أن يمتلئ بطنه، المسبح الصغير في القرية شهد معاركه مع أقرانه، وفي مرات عدة كاد أن يقتل أحدهم.

سنوات طويلة مرت، غادر الولد المشاكس القرية متجهاً إلى المدينة، في الخطوة الأولى نحو المجد الذي طالما دعت أمه الله أن يلبسه لابنها.

في أول زيارة له لم يعرفه أحد، هبط برشاقة من المرسيدس الفضية، قبّل يد العجوز، نظر طويلاً حيث نشأ، أدار ظهره للملعب الذي شهد ركضه، صلفه، أصدقاءه، استدار بسرعة كمن تذكر حدثاً سيئاً.

منذ تلك الاستدارة لم يلمحه أحد في القرية، ماتت التي أرادت أن ينقذها من الفقر على آلاف قليلة كان يرسلها لها كل شهر، التي أرضعته القيادة والعنجهية، كانت ضحيته الأولى.

في العمل كان ينظر إلى المجموعة التي تقف أمامه مصغية لأحاديثه وخطبه الرنانة كخدم، بكل احتقار وبنظرات متعالية  يرمق الحشد، ثم يبدأ بالحديث عن المحفوظات حول الديمقراطية والحوار والإنصاف، الفقراء، الجور، الشعارات التي لم تشبعهم خبزاً، الشعارات نفسها التي جاءت بمعظمهم إلى الوظيفة والطاعة.

 في إحدى النقاشات الديمقراطية للولد الذي صار مسؤولاً.. أنا القانون والقانون أنا، لم أصل إلى هذا المكان بسهولة، هذا المكان لا يصله أياً كان، هذه المناصب ملك الكفاءات، ما آمر به هو الذي ينفذ،  أنتم لا تفهمون في العمل الإداري، والقانون، القانون هكذا، أنا الذي أمثل القانون، القرار قراري.

يعتقد الولد المشاكس، المسؤول الحالي أن القانون لا يطبق على الجميع، يعتقد أن القانون هو مجموعة القرارات التي تصب في باب خدمته، توسيع صلاحياته، عدم الاقتراب من مصالحه، وعدم التصدي لما يحويه صدره من تكبر.

يرى المشاكس أن كل من صيرته الحياة تحت إمرته صغار.... مخطئون، الصغار الذين شاءت أقدارهم أن يكونوا في عداد خدمه، الصغار الذين صاروا صغاراً بأخطائهم لا بجبروته، حتى الماضي الذي ينتمي إليه ملعون ولا يتصل معه، الماضي الذي ربما ألصق به، ينسلخ عنه الآن ويعتبره خطاً ليس مسؤولاً عنه، والده الذي ارتضى أن يكون مأموراً، وأمه التي اكتفت فقط بالدعاء لتمرير عمرها الخائب، لم تصيره الأدعية، الكفاح من أجل المنصب هو الذي جاء به إلى الكرسي.

المشاكس الكبير لدرجة المرض والعمى، في ليله الطويل، الليل الذي يجيء بالأحلام، الأحلام التي تأتي عنوة، لا حاجب(مستخدم) على الباب يمنعها من التسلل إلى العقل الباطن، إلى الحقيقة التي يخافها وحده، تأتي الأحلام على هيئة الماضي، الولد المشاكس في حضن أمه يبكي، الأم ترفع يديها إلى السماء وتدعو بتوسل وذل. 

في البيت وأمام الزوجة التي اختارها على عكس أم الأدعية، أراد كما سوّل له حقده المريض على ماضيه أن يتزوج من امرأة قوية، قاسية لا تعرف الرضوخ والتضرع، أمامها المشاكس يبدو كقط مذعور.. تنكشف كل السواتر التي يزين بها صدره كأوسمة المنتصرين، تسقط كل الأحجيات التي طالما غطى بها داخله المنخور..عقده المخفية والمتوارية خلف النياشين.

تبدأ الزوجة بتعريته، ألست من هناك، من القرية الفقيرة التي لم تفلح رغم خيراتها في خلق نظرات شبع في عينيك، تلك العيون التي تلمع كعين مفترس يرى فريسته كلما لمع المال أمامها.

ألست الولد الذي رمى خلف ظهره آلاف الأدعية التي رسمت درب النجاح، القرية التي من تينها وعنبها وليمونها صرت مشاكساً، الفقراء الذين تدربت على لكمهم لتصير رجلاً بذراع متينة، وقلب أسود.

■ ع . د

آخر تعديل على الجمعة, 02 كانون1/ديسمبر 2016 17:32