موجات لجوء السوريين بين عوامل النبذ والجذب
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

موجات لجوء السوريين بين عوامل النبذ والجذب

تزايد الحديث الإعلامي، الرسمي وغير الرسمي، عن المغادرين من سورية مؤخراً (لجوء- هجرة- تهريب)، مع الكثير من التفاوت، بل التعارض، في الطرح حيال هذه الظاهرة المتجددة، والتي لم تقف موجاتها طيلة سنوات الحرب والأزمة الكارثية، وما زالت مستمرة ومحكومة نسبياً بجملة من العوامل النابذة والطاردة من الداخل والجاذبة خارجاً.

مقابل ذلك، هناك حديث عامة الناس الذي يعبر عن رغبتهم المتزايدة في المغادرة، وخاصة الشباب، وذلك بسبب تردي وسوء الواقع الاقتصادي المعيشي والخدمي بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى جملة متشعبة ومتشابكة من الأسباب الهامة الأخرى، والتي أدت بنتيجتها إلى حال من اليأس المعمم، والذي أوصل البعض ليس لبيع ممتلكاته بأبخس الأثمان تمهيداً للمغادرة، بل لمخاطرة غير مضمونة النتائج، كتكلفة وأمان، والوقوع تحت رحمة المهربين، والأمثلة الملموسة عن كل ذلك خلال السنين القريبة الماضية أكثر من أن تحصى بكل أسف، بما في ذلك ما يتم تداوله من أنباء عمن يتم إلقاء القبض عليهم قبل وصولهم للبلدان المنشودة، وعن أعداد ضحايا البحر والمهربين.

تعارض وتناقض

بينما نُقل عن رئيس الحكومة قوله: أن «الأرقام الرسمية لدينا تثبت أن عدد المواطنين العائدين للمساهمة في بناء بلدهم تفوق بكثير عدد المغادرين منه»، وذلك في معرض حديثه لأعضاء مجلس الشعب بتاريخ 19/9/2021، مع غياب أية أرقام إحصائية رسمية معلنة تؤكد ذلك، يحدثنا الصناعي مجد ششمان، عضو اتحاد غرف الصناعة في سورية، وعضو مجلس إدارة غرفة صناعة حلب، عن حجم هذه الظاهرة مؤخراً في كل من حلب ودمشق، حيث قال عبر إذاعة ميلودي اف إم أن هناك «19 ألف غادروا حلب خلال أسبوعين، و28 ألف من دمشق»، أي 47 ألف مغادر خلال مدة أسبوعين من كل من دمشق وحلب فقط.
فكيف على مستوى بقية المدن، وبقية المناطق خارج سيطرة الدولة، وعلى مدار الأشهر الماضية من بداية العام وحتى الآن مثلاً، أو منذ عامين وحتى الآن، أي منذ بدء تسجيل التراجع الكبير والمستمر على المستوى الاقتصادي والخدمي والمعيشي؟!
على الطرف المقابل، بدأ البعض بشن حملة على المتحدثين عن الهجرة واللجوء، وعن أعداد المغادرين، ليس بغرض نفي الظاهرة واعتبار الحديث عنها من باب نقل الإشاعات فقط، بل مع اتهام المتحدثين عنها بأنهم مُغرضين!
وكمثال عن ذلك، قال أمين سر غرفة صناعة دمشق وريفها: إن «الكلام عن هجرة الصناعيين إلى مصر كلام مغرض وغير واقعي، وهو من باب الإشاعات».
فهل توقفت مساعي اللجوء فعلاً؟ وهل نفي الظاهرة بالكلام يلغي وجودها، أم يعزز دور عوامل النبذ الكثيرة والمتعددة المسببة لاستمرارها، عبر القفز عليها وعدم الاعتراف بها لمعالجتها؟

الأرقام متزايدة في الموجة الأخيرة

إذا كانت سنوات الحرب الأولى عامل نبذٍ شديدٍ داخلي أدت إلى تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين إلى الخارج، ناهيك عن موجات النزوح الداخلي، لأسباب الحرب واتساع الدمار وانعدام الأمان، وغيرها من الأسباب الكثيرة الأخرى، بالتوازي مع بعض عوامل الجذب الخارجي، والتي كانت بعض أسبابها ومبرراتها سياسية أمنية بغلاف إنساني، فإن السنين التالية، وخاصة السنتين الماضيتين، كانت أشد نبذاً من الداخل إلى الخارج، بسبب تردي وسوء الواقع الاقتصادي المعيشي والخدمي بالدرجة الأولى، مع عدم تغييب الكثير من الأسباب الهامة الأخرى التي ما زالت مستمرة، يضاف إلى ذلك بعض عوامل الجذب الخارجي المتمثلة ببعض التسهيلات المقدمة من بعض الدول، أو بتخفيض التكلفة على الساعين للمغادرة تحت أي مسمى (هجرة- لجوء- تهريب).
فموجات المغادرة، بغرض اللجوء أو العمل أو أي مسمى آخر، لم تقف طيلة السنين الماضية، وكانت تحكمها جملة من الظروف، منها: التكاليف، وحجم المخاطرة، والوجهة المستهدفة وشروطها، وغيرها من القضايا الأخرى، حتى وصلت أعداد اللاجئين إلى أكثر من 6 ملايين سوري، سواء في دول الجوار أو في بلدان أخرى قريبة أو بعيدة، خلال السنين الأولى للحرب، وهذه الأرقام تم توثيقها، بغض النظر عن أسباب ومفاعيل استثمارها، وبغض النظر عن واقع وظروف معيشة هؤلاء اللاجئين في هذه البلدان.
أما الموجة الحالية، وإن غابت أرقامها الموثقة والمعتمدة، فإنها كبيرة ولا تقل نسبياً عن الموجة الأولى، مع اختلاف بعض أسبابها طبعاً، ولعل الأرقام المنقولة عبر عضو غرفة الصناعة أعلاه تعتبر مؤشراً على ذلك.
فالحديث عن 47 ألف مغادر من كل من دمشق وحلب خلال أسبوعين يبدو للوهلة الأولى عادياً وغير كبير، خاصة في ظل تردي الواقع الاقتصادي والمعيشي والخدمي، الذي أصبح خانقاً على الجميع، وتحديداً على المفقرين، لكن بحال تعميمه وتوسيع هامشه الزمني فإنه يصبح أكبر، ولا يمكن غض الطرف عنه أو تجاوزه.
فاستناداً إلى الأرقام التأشيرية أعلاه، وبحال تعميمها وتوسيع هامشها الزمني ورقعتها الجغرافية، فإن أعداد المغادرين يومياً تقدر بحدود 3300 مغادر من مدينتين فقط، أي ما يقارب 110 آلاف مغادر خلال شهر، ومنذ مطلع العام وحتى الآن، أي 9 أشهر، قد تتجاوز مليون مغادر من كل من دمشق وحلب فقط، برغم كل التضييقات، بما في ذلك أساليب البلطجة والابتزاز، ومؤخراً قلة عدد جوازات السفر المسلمة مقابل الأعداد الكبيرة الطالبة لهذه الوثيقة من مديريات الهجرة والجوازات في المحافظات، ومع إضافة بقية الرقع الجغرافية التي يغادر من خلالها السوريون، وخاصة الشمال الشرقي والغربي الخارج عن إدارة الدولة وإحصاءاتها، فيمكن أن يتضاعف هذا الرقم، وبحال إضافة السنة الماضية باعتبارها فاتحة موجة اللجوء الحالية لجملة من عوامل النبذ الداخلية المتشابكة، فإن الحديث عن الأرقام قد يضعنا أمام ملايين من المغادرين، سواء كانوا موثقين رسمياً أو غير موثقين، وسواء تم الاعتراف بذلك أم لم يتم!

القفز على الواقع ومساعي تأبيد النهب

الواضح، أن عوامل النبذ والطرد الداخلي لم تنخفض خلال السنين الماضية، بل تزايدت بشكل كبير، وخاصة خلال السنتين الأخيرتين.
فإذا كانت بعض عوامل النبذ المتعلقة بالحرب والمعارك قد انكفأت وتراجعت نسبياً، إلا أن بعض العوامل الأخرى تزايدت واتسعت، وخاصة على المستوى الاقتصادي والمعيشي والخدمي، مع الإصرار على عدم حلها، بل على تعميقها.
فالأزمات على المستوى الاقتصادي والمعيشي والخدمي أصبحت أعمق وأوسع (كهرباء- ماء- مواصلات- تعليم- أجور- أسعار- طرقات- اتصالات- مشتقات نفطية..)، بالتوازي مع تراجع الإنتاج (الزراعي والصناعي والحرفي) وصعوباته ومعيقاته، بالإضافة إلى جملة من الظواهر السلبية مع مفاعيلها الاجتماعية الهدامة، التي تزايدت واتسعت أيضاً (البطالة- الجرائم- المخدرات- الدعارة- السلب- انفلات السلاح- التشبيح والبلطجة..) وصولاً إلى تسجيل مستويات فقر مرتفعة مع انعدم الأمن الغذائي، وكل ذلك يعتبر من عوامل النبذ والطرد الداخلي التي تعمقت واتسعت، حيث لم تعد محصورة بنتائجها على الغالبية من المفقرين فقط، بل انضمت إليهم شرائح اجتماعية أخرى تبحث عن ملاذاتها الخارجية، ومنهم الصناعيون والتجار والحرفيون والأطباء، وغيرهم من أصحاب الكفاءات والمهارات، والذين تتم مساعٍ لاستقطاب بعضهم من قبل بعض الدول، كعامل جذب خارجي لا يمكن إغفاله.
هذا هو الواقع بنتائجه النابذة والطاردة للسوريين، الذي لا يريد البعض من الرسميين أو من المستفيدين منه (فاسدين وناهبين وكبار التجار المستوردين والمصدرين وأمراء وأثرياء الحرب وتجار الأزمة) الاعتراف به، بل يسعون إلى تأبيده مهما كانت الأثمان المقابلة لذلك، بما في ذلك المصلحة الوطنية، بل الوطن نفسه، وما يعزز من دور هؤلاء تلك السياسات الليبرالية التمييزية والوقحة التي وصلت إلى مرحلة التوحش، نهباً وفساداً وإفساداً، وعلى كافة المستويات، بما يحقق مصالح هؤلاء ويزيد من ثرواتهم، مع التعنت في ذلك وصولاً لمساعي تكريس حال اليأس والإحباط، مع مساعٍ يائسة لإغلاق كل بوابات الآمال لدى عموم السوريين التي تنشد تغيير هذا الواقع السيء والمتردي بشكل جذري.
وحول ذلك نورد ما كتبه رئيس اتحاد غرف الصناعة السورية على صفحته الخاصة بتاريخ 25/9/2021: «من البديهي جداً أن ينفي أشباه التجار والانتهازيون الفاسدون وجود أية مشكلة اقتصادية في البلد تجعل الكثير من المنتجين يفكرون بالمغادرة.. فهؤلاء الطفيليات هم أكثر المستفيدين من هذا الوضع الشاذ الذي سمح لهم باستيراد وتهريب كل شيء، وتدمير الاقتصاد الوطني، وتحويل البلد إلى سوق ومكب للمنتجات الأجنبية الرخيصة من ستوكات وتصافي معامل الصين وتركيا.. فرحتهم اليوم لا توصف.. وكذلك إجرامهم بحق الوطن واقتصاد الوطن..».

1037-34

لا سبيل للخلاص إلا بالحل السياسي

بكل اختصار، يمكن القول: إن وقف موجات اللجوء يمكن فقط من خلال تخفيض عوامل النبذ والطرد من الداخل إلى الخارج، المذكور بعضها أعلاه، أي بالعمق ضرب مصالح كبار الفاسدين والناهبين والمتعنتين، الذين أصبحت مصالحهم ليست بالضد من مصالح الغالبية المفقرة فقط، بل بالضد من المصلحة الوطنية، وبالضد من إمكانية استعادة وحدة وسيادة سورية والشعب السوري، ولعل البداية في ذلك هي فتح أفق التغيير الشامل والجذري المنشود شعبياً، والذي يعتبر الحل السياسي وتنفيذ القرار 2254 بحذافيره بوابته العريضة والمتسعة، ليس لوقف موجات اللجوء فقط، بل لعودة اللاجئين أيضاً، كي يشاركوا مع بقية السوريين في تقرير مصيرهم، بأيديهم وإمكاناتهم مجتمعين.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1037
آخر تعديل على الإثنين, 27 أيلول/سبتمبر 2021 17:50