وهل كانت أوروبا متضامنة يوماً؟
عماد بيضون عماد بيضون

وهل كانت أوروبا متضامنة يوماً؟

هل نشهد آخر أيام الاتحاد الأوروبي؟ التصريحات الكثيرة وردود فعل المواطنين على ما يجري اليوم باتت فعلاً يهدد هذا «الاتحاد المتضامن» لكن إذا ما نظرنا في تاريخه قليلاً نرى أجوبة تأخذنا إلى ما قبل تفشي فيروس كورونا وقبل كل الاضطرابات التي تشهدها الشوارع الأوروبية اليوم. الجواب يكمن ببناء اتحاد يلبي مصالح الطغم المالية، ويسحب من فقراء أوروبا والعالم ليطعم «قطط أوروبا السمان».

جرى نقل ستة إيطاليين في حالة حرجة ناتجة عن إصابتهم بفيروس كورونا للمشافي الألمانية كنوع من التضامن. المستشارة الألمانية طالبت الشعوب الأوروبية بالصبر. نائبها، أولاف شولتز، وهو أيضاً وزير المالية، وبينما طالبت رئيسته الشعوب بالصبر، فقد صرح: “لا يوجد حدّ أقصى- تلك هي الرسالة الأكثر أهمية- لدعم الشركات المتضررة من الأزمة الاقتصادية العالمية”. يعكس منطق الخبرين المتضاربين العقلية التي يعمل التضامن الأوروبي ضمنها، فيظهر فقط عند إنقاذ البنوك والشركات عديمة الفائدة من الإفلاس، أما عندما يتعلق الموضوع بحياة ورفاه شعوب القارة، يصبح التضامن رمزياً (على عين العالم)، فتسلب دول القارة صاحبة المجد بعضها البعض المعدات الطبية القادمة من «العدو الصيني» على طريقة قطاع الطرق في القرون الوسطى.


اتحاد للتخلص من الدول القائمة

لم تكن في يومٍ من الأيام فكرة إنشاء اتحاد أوروبي بهذا الشكل مطلباً شعبياً، ولم تخرج المظاهرات العارمة في الدول الأوربية تطالب شعوبها بالوحدة بل كانت على العكس مطلباً لفئة محددة من فئات البرجوازية، هي فئة رأس المال المالي، وسعت من خلاله رؤوس الأموال الأوروبية- المتعطشة للربح- التخلص من العائق الأساسي لتوسعها العامودي والأفقي، وهو أجهزة الدول الأوروبية.
إن أجهزة الدولة الأوروبية، بعد الحرب العالمية الثانية، والتي نشأت على البنيان الكينزي القائم على وجود نشاط عالٍ للقطاع الحكومي وضرورة تحكم الدولة بالقطاعات الإنتاجية والقطاعات الخدمية، كانت معيقاً لنشاط رأس المال الأوروبي الراغب بأن يتم تحطيم قدرات الدول الأعضاء، وما كان هذا ليتم دون وحدة رأس المال وتفاهم أعضائه من خلال ممثلية المنتخبين في الدول لتغيير بنيان الدول الأوروبية. هكذا نشأ التضامن الأوربي بين رؤوس أموال الاتحاد ومصرفييه، ولم يكن أبداً اتحاداً نتيجة لمطالب جماهيرية، بل تم إنشاؤه بظرف تراجع الحركات الشعبية في العالم وقدرة الحكومات على ممارسة ضرب الرفاه الاجتماعي من خلال سياسات التضخم والخصخصة بعد عقود من الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي. وهنا نشأت الوحدة الرأسمالية الأوروبية من خلال معاهدة ماستريخت والتي كانت أهم نقاطها: إنشاء اتحاد اقتصادي ونقدي بين الدول الأعضاء، وكان على الدول التي ترغب في الانضمام لهذا الاتحاد النقدي والحصول على اليورو كعملة لها أن تخضع لمجموعة شروط يضمن فيها الاتحاد الحفاظ علىى ثبات واستقرار العملة الجديدة. وتتنوع الشروط بين شروط مالية وأخرى تتعلق بمستوى أسعار الفائدة وبسعر الصرف، وحددت الشروط المالية نسبة عجز في ميزانية الدولة العضو لا تزيد عن حاجز ال 3% ونسبة دَين عام لا تتعدى ال 60% كأهم الشروط.


هل حقق الاتحاد الاوربي أهدافه

اليوم، وبعد 23 عاماً على معاهدة ماستريخت، يمكننا القول: إن الاتحاد الأوروبي نجح في تحقيق أهداف طغمته المالية. إن الاتحاد اليوم متعاضدٌ متكاتفٌ على حماية الشركات والبنوك كهدف عميق له، وهو نقيضٌ للديموقراطية ورفاه الشعوب.
ويبدو متناقضاً موقف وزير الخارجية الإيطالي، الذي يشكو كثيراً هذه الأيام من أن الاتحاد الأوروبي لا يؤدي عمله التضامني، ولا يساعد إيطاليا في التصدي لانتشار الوباء، ويهدد أيضاً بأنه سيتخذ إجراءات ضد الاتحاد الأوروبي لتركه إيطاليا وإسبانيا في محنتهما، لأنه ينسى على ما يظهر أن هذا الاتحاد نفسه هو الذي فرض التقشف على الدول الجنوبية في القارة، ولا يمكن اعتبار التقشف تضامناً إلاّ إذا رأيناه من زاوية رؤوس الأموال الأوروبية. إذاً دعونا نذكر الوزير الايطالي بالسبب العميق للأزمة الأوروبية وعدم قدرة الدول الأوروبية على اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية الحاسمة؛ فالسؤال اليوم هو: هل توجد سلطة أوروبية قادرة على حل المشاكل؟ وللإجابة عن السؤال سنأخذ إيطاليا نفسها نموذجاً للقياس
أشرنا في البداية إلى أن الاتحاد أقيم من أجل إنهاء سيطرة أجهزة الدول الأوروبية على العمليات والتدخل في الحياة الاقتصادية لأنها واحدة من أهم مبادئ مدرسة شيكاغو الاقتصادية التى تتدعي أن تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي سيخرب الاقتصاد، ويمنع نمو القطاع الخاص والناتج المحلي. وفي التطبيق العملي لإنهاء سيطرة الدول على الاقتصاد، فإن الخصخصة هي التعبير الاقتصادي السياسي لتراجع دور الدولة.
تتضح عمليات الخصخصة الموسعة التي تعرضت لها القطاعات الإنتاجية الأوروبية من العام 1977 حتى العام 1989حيث كانت هذه العمليات محدودة في البداية ثم جرى توسيعها بشكل مضطّرد حتى بلغت الذروة عقب «أزمة النمور الآسوية» 1999 ومن ثم تواترت بشكل متناقص حتى وصلت إلى ذروة أخرى مع الأزمة الاقتصادية العالمية، فأين ذهبت أموال الخصخصة؟ جرى ضخها في القطاعات غير المنتجة، لأن رأس المال لا تعنية صحة المجتمع بقدر ما تعنية أرباحه المتحققة في سوق البورصات والأسهم والسندات والبنوك.

 


في المثال الإيطالي، إذا نظرنا إلى مؤشر نمو قطاع الخدمات في إيطاليا، نجد هذا القطاع قد نما بشكل متزايد رغم ارتفاع نسبة الدَّين إلى الناتج المحلي الإيطالي إلى حدود 134 بالمئة حتى العام 2019.
إن سبب تراجع النمو الايطالي عائد بشكل رئيسي لتراجع النشاط الصناعي الإيطالي الذي انكمش منذ 1996 إلى اليوم. ومع حساب معدل الاهتلاك فإنه قد انكمش أكثر بكثير.
إن الاتحاد الأوروبي من خلال سياساته الاقتصادية التي فرضها على الدول الأعضاء، والفقيرة منها بشكل أكبر، لا يسعى بأي شكل من الأشكال إلى تحقيق التضامن بين شعوب القارة؛ ففرض التقشف وقبله تحويل بيع رأس مال الدول للقطاع الخاص بأبخس الأسعار لا يعتبر تضامناً بأي شكل. بل إنه لمن المضحك التباكي الأوروبي على شيء لم يوجد من الأصل!

معلومات إضافية

العدد رقم:
959
آخر تعديل على الإثنين, 11 أيار 2020 14:57