كيف اختبأ التنين الصيني في كمامة صغيرة!

كيف اختبأ التنين الصيني في كمامة صغيرة!

في الوقت الذي يشهد العالم أزمة حقيقية تتطلب كل جهدٍ في سبيل إنقاذ العالم مما هو مقبلٌ عليه، تنصرف وسائل إعلامٍ «مرموقة» لحياكة الدسائس وخلط الأوراق، ونظراً لحساسية الظرف لا بد لنا من الوقوف ولو قليلاً لفهم ما الذي يقال وما الغرض من قوله اليوم وفي هذا الظرف تحديداً؟

تحتاج دول العالم اليوم كماً كبيراً من المستلزمات الطبية، واستطاعت الصين تلبية جزءٍ كبير من هذا الطلب العالمي الطارئ، جاء جزءٌ منها على شكل مساعدات حكومية رسمية أو من شركات وفعاليات أخرى، وكان الجزء الآخر عبر تأمين «البضائع» الصحية المطلوبة في الأسواق العالمية.


ما الذي يجري؟

وهنا تكمن المشكلة، فالصين احتلت عناوين الصحف في الفترة الماضية، وتحديداً لتقديمها يد العون للدول التي احتاجت المساعدة في هذه الفترة العصيبة، ويجري مؤخراً هجوم شرس على الصين – وروسيا طبعاً- يستند إلى فكرة أساسية وهي أن المساعدات الإنسانية والإمدادات الطبية ليست خدمةً مجانية، وإن هذه الإمدادات إما معطوبة وغير صالحة، وإما إنها تهدف «لشراء الذمم» في أوروبا، وفي أحيان أخرى هي مساعدات لا لزوم لها ومع ذلك تتسابق الدول الأوروبية للحصول عليها وشرائها لسببٍ مجهول.

وهنا وفي البداية وقبل الخوض في تفاصيل هذا الموضوع الشائك علينا الإجابة على السؤال الكبير... هل الدور الذي تلعبه الصين وروسيا اليوم سيسمح لهم بحصاد نتائج سياسية في المستقبل القريب؟ وهل ما يجري اليوم يسرع من عملية ملئ الفراغ الذي يخلفه التراجع الأمريكي؟ بالطبع! ولكن الجواب الضروري هو كيف يتم ذلك ومن هو المتضرر من هذا التحول؟

حرب إعلامية قاصرة

يجري تداول مجموعة من التقارير الصحفية الغربية التي أصبحت سلاحاً في الهجوم على الدور الصيني، ولا يمكن استعراضها جميعاً لكن نرى أنه من الضروري عرض بعضها بشكل موجز قدر الإمكان:

جرى، وعلى مستواى واسع، تداولٌ لخبر مفاده أن الصين زودت اسبانيا باختبارات غير موثوقة للكشف عن فيروس كورونا المستجد، وأن هذه الاختبارات أظهرت نسبة فعالية لم تتجاوز 30%، وجاء في صحيفة الغاردين أن الحكومة الاسبانية سحبت أكثر من 58 ألف اختبار من التداول، واعتبرت وسائل الإعلام أن هذا الخبر هو دليلٌ على الدور المشبوه الذي تلعبه الصين اليوم. إن الخبر خطيرٌ حقاً ومثيرٌ للاهتمام لكنه ليس بالبساطة التي يجري تداولها، فحسب الصحيفة نفسها، أعلنت الصين عن قائمة من الشركات المعتمدة من قبل الحكومة الصينة، وإن الشركة المذكورة لم تكن ضمنها، يضاف إلى ذلك أن هذه الاختبارات لم تقدمها الصين بشكل رسمي لاسبانيا، بل قامت شركة خاصة اسبانية بشراء هذه الشحنة في وقتٍ سابق، لتقوم لاحقاً ببيعها لوزارة الصحة الاسبانية، التي أكدت في بيانٍ رسمي أن هذه الاختبارات توافق المعايير الأوروبية المعتمدة في اسبانيا. وأكدت الحكومة الاسبانية أن هذه الاختبارات لم تكن جزءاً من الشحنة الرسمية التي سـتؤمنها الحكومة الصينة. وهنا يبدو من الطبيعي أن تعيد الحكومة الاسبانية الشحنة، وأن تحصل على مستلزماتها من قبل الموردين المعتمدين الذين صرحت بهم الحكومة الصينية، لكن هذا لم يحصل بل على العكس، فحسب مقال آخر في صحيفة الـ «الديلي ميل» البريطانية ستقوم الحكومة الاسبانية بتبديل الاختبارات عن طريق المصدر ذاته!

المشكلة مركبة بلا شك، فهي تدل أن هناك شركات داخل الصين لا تقدم الحد الأدنى من المعايير الطبية والتقنية التي يجب توفرها في هذا النمط من المنتجات (على الرغم من أن الشركة في دفاعها عن نفسها صرّحت بأن الاختبار لم يستخدم بالشكل الصحيح)، وهذا يضع تحدياً كبيراً أمام الحكومة الصينية لضبط هذه العملية، وإحدى هذه الخطوات هي الخطوة الضرورية التي قامت بها بكين فعلياً وهي الإعلان عن الشركات المعتمدة في هذا المجال، لكن المشكلة أننا أمام خلل في معايير الجودة الأوروبية أيضاً والتي لم تر مشكلة في الاختبارات، والمشكلة في الحكومة الاسبانية التي لسبب ما تشتري مستلزمات عن طريق وسطاء يسعون للربح بالدرجة الأولى

في مقال آخر نشر في مجلة « ناشيونال ريفيو» اليمينية الأمريكية، تؤكد فيه أنّ «بيع الأقنعة الطبية ليس أعمالاً خيرية»، وهذا صحيح طبعاً، لكن الصين «والتي عانت من نقصٍ في الإمدادات الطبية في ذروة تفشي المرض على أراضيها»، استطاعت بفضل قدراتها الاقتصادية الكبيرة أن تقوم باستجابة سريعة لتسد حاجتها المحلية وتغطي جزءاً من الطلب العالمي الكبير، وتقول الأرقام أن الصين استطاعت مضاعفة انتاجها من الكمامات بما يعادل 450% خلال شهر واحد، هذا الذي لم يستطع العالم القيام به إلى اليوم، بل ترى الولايات المتحدة الأمريكية أنه من الأسهل لعب دور «قراصنة الكمامات» فتغزو الحكومة الأمريكية المطارات وتشتري شحنات الكمامات بأسعار مضاعفة، وهذا ما ذكر حتى في صحيفة الغاردين التي أكدت أن الولايات المتحدة «خطفت» شحنة كمامات كانت متجهة إلى فرنسا. ومع كل هذا تطمئن مجلة «ناشيونال ريفيو» قراءها أن الصين لن تستطيع أن تفعل ما فعلته وتفعله الولايات المتحدة الأمريكية و«حلفاؤها الديموقراطيون» بل تؤكد أنهم ينفقون على المساعدات الإنسانية «أكثر مما ينفقون على أغراض الدفاع»، يختتم كاتب المقال مايك واتسون بأن «الأمريكان يعطون بسبب معدنهم، بينما يعطي الشيوعيون الصينيون ليأخذوا في المقابل، العالم سيرى... وسيتذكر»

لا مجال لعرض كل ما يكتب في هذا الخصوص، فالصحافة الغربية تضخ آلاف المقالات المشابهة التي يجب الوقوف عندها أو على الأقل قراءتها فمعظمها يمكن الرد عليه حتى دون الرجوع إلى مصدرٍ صينيٍ واحد! يكفي قراءة المقال لنرى درجة الإفلاس الموجودة. يحتاج العالم اليوم درجة عالية من التكاتف، فالمتحدث باسم الخارجية الصينية قال صراحة أن بكين تعتبر « المساعدة الصينية في الاستجابة لحاجات الاتحاد الأوروبي نوعاً من رد الجميل» فالصين نفسها تلقت مساعدات، لكنها استجابت بشكل سريع لما تفرضه الضرورة اليوم.

في مقالٍ نشر في الفورين بوليسي يحذر من الدور الذي تلعبه الصين وروسيا يختم كاتبه بالقول:

«إذا فقد أيّ من دول الناتو ولو عدداً قليلاً من مواطنيه كنتيجة لعملٍ عسكري، سيرد التحالف فوراً وبكل طاقته، سيرسل المعدات والجنود والقادة من كل دول التحالف للخطوط الأمامية، لكن وباء فيروس كورونا لم يكن أبداً الهجوم الذي استعد الناتو لصده»، وهذا هو جوهر المشكلة، العالم كان منشغلاً بالإنفاق على جيوشه ولم يعد يملك ما يكفي لبناء المستشفيات وتمويل الأبحاث الطبية، فأوروبا اليوم لم تستطع الاستجابة بالشكل المطلوب، الناتو لم يقدم النفع حتى للشعوب التي أنفقت عليه لعقود.

في إحدى تصريحات الرئيس الصيني شي جين بينغ في آواخر العام الماضي قال أن «الحلم الصيني المتمثل في النهضة العظيمة للأمة الصينية، ليس بأي حال من الأحوال حلماً للسعي إلى الهيمنة» مضيفاً أن «تاريخ الصين المهين، حينما كانت دولة شبه مستعمرة وشبه إقطاعية، لن يتكرر أبداً»، لا يمكننا اعتبار تصريحات الرئيس الصيني دليلاً على نوايا الصين الطيبة، لكن الصين تنتج منفردة ما يقارب 20% من الناتج العالمي، وتعرض على العالم نمطاً من العلاقات الاقتصادية «Win-Win» الذي يضمن المنفعة المتبادلة لطرفي الاتفاق وهذا يشكل تهديداً حقيقياً للنمط السائد اليوم، فأوروبا ملزمة بشراء بضائع أمريكية بأسعار أغلى، لأن الولايات المتحدة تضع مصلحتها فوق الجميع. العالم يتغير بسرعة، وروسيا والصين ستحصد الكثير فعلاً أكثر من مجرد «عناوين في الصحف» كما تّدعي مجلة «ناشيونال ريفيو»، بل ستنجح أقطاب العالم الجديد بفرض التعددية القطبية وبتحرير الدول من علاقات أثقلت كاهلهم ونفقات عسكرية تبيّن أنها لا تفي بالغرض عند الضرورة، وفي الختام نستعير كلمات «ناشيونال ريفيو» حرفياً: العالم سيرى... وسيتذكر!

معلومات إضافية

العدد رقم:
960
آخر تعديل على الأحد, 18 تشرين1/أكتوير 2020 09:37