الديموقراطية ليست «كوكاكولا» والقواعد لا يحددها 12% من العالم!

الديموقراطية ليست «كوكاكولا» والقواعد لا يحددها 12% من العالم!

شكّلت تصريحات وزير الخارجية الصيني وانغ يي- التي قالها في مؤتمر بالفيديو مع ممثلي مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي- مادة دسمة لوسائل الإعلام، فالوزير الصيني الذي نبّه الولايات المتحدة إلى أن الديمقراطية ليست وصفة أمريكية واحدة تصلح للجميع، كما حدث مع الكوكاكولا، كان يحاول في مداخلته تثبيت القواعد الجديدة للعبة. تلك التي تحاول الولايات المتحدة تجاهلها.

وزير الخارجية الصيني قدّم في مداخلته مجموعة نقاط أساسية، رأى فيها مخرجاً للعلاقات الأمريكية الصينية المأزومة، وإن كان من الضروري استعراض هذه النقاط، إلّا أن بعض الأفكار والاستطرادات الأخرى تستحق الوقوف عندها أيضاً!

النقاط الخمس المقترحة

حملت مداخلة وانغ ايي خمس نقاط أساسية يمكن من خلالها إعادة صياغة العلاقات الإستراتيجية بين واشنطن وبكين، كانت الأولى: ضرورة أن تنظر الولايات المتحدة إلى التنمية في الصين بنوعٍ من الموضوعية والعقلانية، وضرورة أن تعمل الصين والولايات المتحدة معاً على طريقٍ جديد للتعايش السلمي والتعاون بما يضمن المنفعة المتبادلة، ويجب حسب النقطة الثالثة التي طرحها وانغ ايي: أن تقبل الولايات المتحدة حق الشعب الصيني باختيار نظامه، وأن تحترم المسار الذي يختاره. وقال وانغ ايي: إن على واشنطن أن تلتزم قولاً وفعلاً بمبدأ التعددية وألّا تتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.

من يضع القواعد؟

ينتقد السياسيون الصينيون بشكل مستمر، ذلك المصطلح الذي يصر السياسيون الأمريكيون والغربيون على استخدامه، والولايات المتحدة تتمسك بما تسميه (النظام الدولي القائم على القواعد)، الذي لا تستطيع الصين فهم المقصود منه تماماً، فتطرق وزير الخارجية الصيني وفي عدة مناسبات لهذا المصطلح، ويرى فيه سعياً أمريكياً إلى تغيير المرجعية الدولية، فبدلاً من القانون الدولي والأمم المتحدة، هناك (نظام دولي قائمٌ على القواعد)، ويسأل وانغ يي: من سيضع هذه القواعد؟ ويُجيب في مداخلته عن السؤال مجتهداً، فيقول: المقصود القواعد التي وضعتها الدول الغربية، أي: إنها وبحسب الوزير الصيني، قواعد وُضعت من قبل 12% من سكان العالم، ولذلك لا يمكن أن تكون ملزمة لكل سكان الكوكب. وعلى الرغم من مشروعية التساؤلات الصينية إلّا أن السؤال الذي طرحه وانغ يي لا يمكن الإجابة عنه إلّا من خلال إعادة ترتيبٍ سريع للمقدمات التاريخية، فما يعرف بالنظام الدولي يعني في جوهره، الأمم المتحدة والقانون الدولي أي: ذلك التفاهم الذي وضعته الأطراف المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، والذي عبّر في وقته عن توازن دولي محدد قائم على أقطاب متعددة، لكن مصطلح (النظام الدولي القائم على القواعد) ذو المنشأ الغربي، جاء ليعبر عن فترة تلت الحرب العالمية الثانية، أي: تلك الفترة التي تراجعت فيها الأقطاب الأخرى لتسود الهيمنة الإمبريالية الأمريكية، فالخسائر الجسيمة التي مني بها كل المشاركين الفعليين في الحرب العالمية الثانية، كانت ثقلاً كبيراً على ظهورهم لم يسمح لهم بحركة سريعة كتلك التي تميزت بها الولايات المتحدة الأمريكية في تلك الفترة ذاتها، بالإضافة إلى أن الطرف المقابل للإمبريالية الأمريكية (أي: المعسكر الاشتراكي) كان قد شهد في وقت لاحق تراجعاً متسارعاً، كان الخلاف السوفييتي- الصيني أحد أشكاله، ووصولاً إلى انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية، والنتائج الكارثية التي تلت هذا الانهيار. أي: إن الولايات المتحدة، عندما تتحدث عن (النظام الدولي القائم على القواعد)، إنما تتحدث عن فترة هيمنتها على العالم، تلك الفترة، والتي لا شك كان لها مقدمات موضوعية، إلا أنها لم تكن مقبولة بالمعنى العالمي، بل كانت واقعاً تعايش معه البعض وقاومه البعض الآخر مقاومة بطولية، لِما حمله من ويلات على شعوب الأرض المضطهدة.
كررت الصين وروسيا تمسكهما بالقانون الدولي وبالدور الذي تلعبه الأمم المتحدة، وهذا التوجّه السياسي جاء بوصفه نتيجة موضوعية لانتهاء حقبة الهيمنة الأمريكية، وإن كانت النخب العالمية ووسائل الإعلام تحاول دائماً وضع الذرائع التي تسوقها الولايات المتحدة في الواجهة، وتروج لكون هذه الذرائع هي السبب الوحيد والمباشر لحالة العداء القائمة، إلّا أن جوهر المسألة واضح، فالصين وروسيا تطلبان من الولايات المتحدة أن توقّع مجازياً على قرار تنازلها عن (العرش)، وهنا جوهر المشكلة بالنسبة لواشنطن. ومن هذه الزاوية بالتحديد يمكن لنا أن نكون متأكدين أن الصين وروسيا تتحدثان بكامل الجدية عن نية صادقة لفتح صفحة جديدة للعلاقات بينهما وبين الولايات المتحدة، أي: طيّ تلك الصفحة التي هيمنت فيها الولايات المتحدة على ثروات العالم وضمنها ثروات الصين وروسيا، وهم بالتأكيد مصممون على فعل ذلك بالأشكال السلمية والدبلوماسية، وبعيداً قدر الإمكان عن المواجهات العسكرية، أملاً في تجنب دفع ثمنٍ باهظ لهذا التحول مما يجعله هشاً، هذا على فرض أن يخرج الكوكب الذي نعيشه سالماً من نزاعٍ عسكريٍ كهذا.

إن لم تكن (كوكاكولا) فما هي؟

تطرح دول البريكس شكلاً مختلفاً لإدارة شؤون الكوكب، فهي تصرّ أولاً على ضرورة إدارة شؤون العالم بأعلى شكلٍ ممكن من الديموقراطية، وترى في وزنها مدخلاً مناسباً لهذا الطرح، فدول البريكس والتي تشكل ما يقارب 30% من تعداد السكان في العالم، ومن المتوقع أن تساهم في 50% من الناتج العالمي مع دخول العام 2030، ترى مساهمتها في صياغة أركان (النظام الدولي القائم على القواعد) أدنى مما يجب عليها أن تكون، وهذا مطلبٌ محق وعادل. لكن سؤال وانغ يي يبقى مطروحاً، من سيضع القواعد؟ فإن كان الجواب المنطقي هو أن توضع هذه القواعد بأعلى درجات الديمقراطية والتعددية، ويقدم وانغ يي طرحاً مختلفاً عن طرح (صراع الحضارات) الذي حاولت واشنطن حشره في أنوفنا، فهو يؤكد تمسك بكين بـ (تنوع الحضارات)، مؤكداً أن فرض نموذج وحضارة واحدة على الأرض يُفقد العالم حيويته وفرصته الوحيدة في البقاء، وهو محقٌ في هذا، وإن كُنّا نؤكد أيضاً: أن الديموقراطية ليست (كوكاكولا)، يبقى أن نقول: ما هي إذاً؟ فعلى الرغم من أن لها أشكالاً متنوعة ومختلفة باختلاف ثقافات الشعوب، إلّا أن جوهرها يجب أن يبقى ثابتاً بوصفها الشكل الوحيد الذي يضمن مصلحة الأكثرية الساحقة في هذا الكوكب الذي نعيش فيه، عبر ضمان حقهم، لا باختيار ناهبيهم بل باختيار أكثر الأشكال عدالة لتوزيع ثروات الأرض، وتوزيع كل تلك الثروة التي تُنتج بجهود المنتجين الحقيقيين، أياً كان موقعهم جغرافياً، وبأعلى عدالة ممكنة. فأكثر أشكال التعددية ديموقراطيةً هو ذلك الذي يستند إلى أوسع تمثيل شعبي. والصين التي كررت في عددٍ من المناسبات أنها ترى أن إعادة إنتاج التجربة الأمريكية خطيئة، لم تقل ذلك لإبعاد الشبهة حولها بالطبع، بل قالتها بعد ما أثبت التاريخ أن تجربة واشنطن فشلت وأن الحكمة الصينية ستفرض عدم الوقوع في الخطأ نفسه مجدداً. لا من زاوية السياسية الخارجية فحسب، بل باتباع النموذج الرأسمالي في إدارة هذه الثروة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1015