قمّة جديدة = تراجعٌ جديد..

قمّة جديدة = تراجعٌ جديد..

انتهت في 16 من شهر حزيران الجاري القمة التي جمعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأمريكي جو بايدن في مدينة جنيف السويسرية، إشارات استفهام كبرى لا تزال موضوعة حول عدد كبير من القضايا، ولا يمكن الجزم حولها إلّا بمراقبة تطورات الملفات العالمية العالقة، والتي ستشكل التوافقات الروسية الأمريكية- إذا ما تمت- مناخاً مؤاتياً لحلحلتها.

تعتبر مخرجات القمة المعلنة حتى اللحظة خطوطاً عامة لمجالات التعاون المحتمل بين البلدين، ولم يجرِ الحديث عن خطوات إجرائية مباشرة بعد، باستثناء تحديد موعد عودة عمل السفراء، لكن هذا لا يعني أنه لا يمكن تتبع بعض مخرجات هذه القمة التي وصفتها بعض وسائل الإعلام الأمريكية «بالتاريخية» واعتبرتها أطراف أخرى بأنها لم تكن لمصلحة الولايات المتحدة، كما أشار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. لكن وبعيداً عن التوصيفات العامة، أو تلك المواقف المحسوبة سياسياً، لا بد من محاولة قراءة القمة بشكل موضوعي يبتعد عن المبالغات والتوصيفات الفضفاضة.

انعقاد القمّة.. تراجعٌ جديد

لا نبالغ إذا قلنا: إن أهم إنجازات هذه القمة كان انعقادها، لا كحدث منتظر فحسب، بل كمؤشر جديد على التراجع الأمريكي، فالقمة الأخيرة التي عقدت في هلسنكي عام 2018 بين الرئيس السابق ترامب والرئيس بوتين شكلّت صدمة كبيرة بالنسبة لعدد من نخب الولايات المتحدة، الذين رأوا في القمة في ذلك الوقت إعلاناً صريحاً عن تراجع بلادهم، وجرت محاولة لتحميل المسؤولية إلى ترامب شخصياً، واعتباره غير مؤهل لإدارة شؤون البلاد، وأنه ونظراً لـ «صفاته الشخصية» لم يتمكن من وضع حدود واضحة لروسيا. لكن ما يغفله أصحاب هذا الرأي، أن قمة بين دولتين عُظميين لا تستند إلى مهارة الرئيس وحذاقته فحسب، وهذا ما تحاول وسائل الإعلام تثبيته لتترك آلية اتخاذ القرار وممارسة الصلاحيات في دائرة مظلمة بالنسبة للرأي العام، فقد تطلب التحضير للقمة الأخيرة وقتاً طويلاً وجرى وضع جدول الأعمال الذي عمل عليه سياسيون وخبراء من كلا البلدين، وجرت مشاورات على مستوى وزراء الخارجية قبل أن يلتقي الرئيسان، فكل هذه التحضيرات السابقة تقلل إلى حدٍ ملحوظ هامش «النتائج المفاجئة» وتجعل من القمّة جلسة العمل الأخيرة التي توضع فيها اللمسات النهائية. لكن القول: إن انعقاد القمة كان بحد ذاته تراجعاً أمريكياً هو لأنه عودة إلى نقطة الصفر بالنسبة لواشنطن، فبعد انتهاء قمة العام 2018 بات نشاط شيطنة روسيا يزداد بشكل ملحوظ في الولايات المتحدة، وتعقدت العلاقة بين البلدين بشكلٍ غير مسبوق في التاريخ، وكانت النتيجة الطبيعية لهذه العلاقات المتوترة بقاء معظم خطوط التواصل مغلقة بين البلدين، أي : إنه لا مخرجات متوقعة في أيّ من الملفات العالقة بينهم، فإذا كانت كل خطوط التواصل مقطوعة فهذا يعني: أن لا إعلان مرتقباً، وهذه كانت إستراتيجية أمريكية واضحة ولها أهدافها، وانعقاد القمّة في جنيف يعني تراجعاً عن سياسة واشنطن في التعامل مع «الملف الروسي»، فتوتير الأجواء من جهة وتمسك واشنطن بنشر الفوضى في كل المناطق التي تمس الأمن الوطني الروسي، كان سعياً إلى دفع موسكو نحو تقديم تنازلات، لكن هذا لم يحدث في أيٍ من الملفات، مما دفع واشنطن إلى إعادة صياغة إستراتيجيتها. ونجد في حديث وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون في عشية القمّة الأخيرة خير دليلٍ على هذا، فهيلاري التي وصفت بوتين قبل سنوات بأنه «لا يملك روحاً» وقفت لتجيب على أسئلة مقدم برامج في محطة MSNBC والذي أعاد إلى الأذهان المذكرة التي قدمتها كلينتون بصفتها وزيرة الخارجية إلى البيت الأبيض في العام 2013، والتي قالت فيها إنه يجب حرمان بوتين من «المؤتمرات الرئاسية» واعتبرتها بمثابة «الأوكسوجين الذي يحتاجه» والتي عبّرت فيها لا عن رأيها الشخصي فحسب، بل عن رأي مجموعة من النخب، تلك التي نجحت «بحرمان بوتين من هذه المؤتمرات» بعد قمّة هلسينكي، لكن كلينتون تخرج اليوم لتعلن بشكل دبلوماسي عن إعادة النظر في هذه السياسية، وتؤكد أن «الظرف قد تغيّر» وأنه لا يمكن أن «نعيد عقارب الساعة إلى الوراء» لذلك فهي ترى اليوم أن ما يقوم به بايدن هو خطوة صحيحة بأن يجلس مع بوتين ويناقش «المجالات التي يمكن العمل عليها سوياً»، بغض النظر عن مبررات كلينتون التي حاولت تقديمها إلا أنها عكست بحديثها هذا، توجهاً مختلفاً توج بانعقاد القمة بعد أن كانت «محرّمة».
انعقاد أية قمّة رئاسية بين موسكو وواشنطن يعني أن تظهر بوضوح أوزان كلٍ منهم على الساحة الدولية ولا مجال لإخفاء ذلك كثيراً، فكل التفاصيل التي جرى تنسيقها بعناية في هذه القمة- وأصرّ عليها الجانب الأمريكي- كانت تهدف لتقزيم مخرجاتها الموضوعية، فلا مؤتمر صحفياً مشتركاً ولا بيانات مطولة ومفصلة ومع ذلك تراجعت واشنطن أمام موسكو في كل الملفات الموضوعة على جدول الأعمال، فالتنسيق الإستراتيجي قائم، وصدر تعهد جديدٌ بذلك، وإعلانٌ عن لقاءات تجمع الخبراء لوضع إطار للأمن السيبراني بعد أن رفضت واشنطن ذلك لسنوات، إعلانٌ جديد عن احترام واشنطن لاتفاقية مينسك لحل الأزمة الأوكرانية، تلك التي لم تكن طرفاً فيها. وقد تحمل الأيام القادمة بعض المفاجآت الجديدة التي لم تجرؤ الولايات المتحدة أن تعلنها في بيان مشترك من فوق منصة مشتركة يقف فيها الرؤساء مبتسمين.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1023
آخر تعديل على الإثنين, 21 حزيران/يونيو 2021 11:48