أحداث مهمة تجري رغم قسوة الأسابيع الماضية

أحداث مهمة تجري رغم قسوة الأسابيع الماضية

التطورات المتسارعة التي تلت عملية «طوفان الأقصى» كانت كافية لطرح مسائل ملحة جديدة على طاولة البحث، وتحديداً حول النتائج المتوقعة في منطقتنا بعد العدوان الواسع الذي شنّته قوات الاحتلال على القطاع، فأي مواجهة من هذا النوع في ظل ظرفٍ دوليٍ حساس يمكن أن يكون لها نتائج واسعة أكبر بكثير من نطاق المواجهات الجارية داخل الأراضي المحتلة.

بالرغم من أن الأنظار تركّزت خلال أكثر من شهرين على الجرائم التي ارتكبها الكيان المدعوم من واشنطن بحق الفلسطينيين، ظلّت الآثار السياسية المتوقعة غائبة بعيداً عن الضوء، أو جرى تأجيل الحديث عنها كون الظرف الإنساني الذي عانى منه سكان القطاع في الأسابيع الماضية كان أكثر إلحاحاً، لكن التعنت الأمريكي الذي كان كافياً لإعاقة كل محاولات وقف إطلاق النار داخل مجلس الأمن، لم يكن كافياً لتأجيل تحركات سياسية أخرى ستكون لها آثار هائلة على شكل العالم الجديد الذي يتشكل، تحركات كانت تجري بالفعل حتى قبل بدء التطورات الأخيرة، لكنها آخذة في التسارع، وبات يمكن رصدها بسهولة أكبر.

ضريبة الموقف الأمريكي

سبق أن ناقشت «قاسيون» في أعدادها السابقة استراتيجية واشنطن في ظل التصعيد الحالي، لكن «استراتيجية» كهذه لها بطبيعة الحال «مدة صلاحية» وإن لم تنجح واشنطن بالوصول إلى أهدافها خلال هذه المدة، فإن نتائج هذه السياسة ستكون عكسية ومدمرة على الكيان وواشنطن معاً، فإن كانت الملامح العامة للضريبة التي سيدفعها الكيان واضحة ومتوقعة، ويبدو أن الضريبة التي ستدفعها واشنطن ستكون مركبة ومتعددة الأوجه، فإن كان إنشاء اللجنة الرباعية للشرق الأوسط، والتي عرفت «برباعية مدريد» كان يتناسب مع توازن دولي محدد في حينه، وحظيت فيها واشنطن بحصة الأسد، فإن السياسة والإجراءات الأمريكية الملموسة تدفع الأمور لتغير هذه التركيبة بما يتناسب مع واقع دولي جديد ومختلف، فالموقف الأمريكي الرافض لوقف إطلاق النار مثلاً، بات يتعارض مع المصالح العميقة والمباشرة لدول المنطقة، وأصبح هذا الموقف بمثابة دليل جديد على عدم أهلية واشنطن للعب دور الوسيط في أي مسار لحل القضية الفلسطينية، وخصوصاً، أنها طرف مباشر ومعلن في هذه المعركة. فرغم أن كل هذه كانت حقائق معروفة للجميع، إلا أن التوازن الدولي طوال الفترة الماضية لم يسمح بتغيير هذه المعادلة. وفي هذا السياق، ظهرت مؤشرات في جولة مجموعة الاتصال العربية التي زارت كل الدول الدائمة في مجلس الأمن، فبعد أجواء إيجابية في محطتها الأولى في روسيا والصين، وتقاطعات كبيرة في وجهات النظر بين الوفد العربي ونظرائهم في موسكو وبكين، بدت الأجواء معكّرة في واشنطن، وتحديداً أن الزيارة جاءت بعد الفيتو الأمريكي الأخير في مجلس الأمن، ما اضطر مجموعة الاتصال، لإعلان «امتعاضها» من موقف واشنطن، وذلك أثناء لقاء الوفد العربي مع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن. هذا مع ما رافقه من نشاط دبلوماسي عالٍ من قبل روسيا والصين في الأسابيع الماضية، بات يعطي أفضلية أكبر لهذه القوى الصاعدة بلعب دور أوسع في المرحلة القادمة.

زيارة مفصلية للرئيس الروسي

أعلن الكرملين يوم الثلاثاء 5 من شهر كانون الأول الجاري عن زيارة في اليوم التالي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى دولة الإمارات والسعودية، وفي الوقت الذي كانت زيارة الرئيس الروسي إلى الإمارات مقررة فعلاً منذ مدة، إلا أن الزيارة إلى الرياض كانت خطوة غير مجدولة، أو معلنة في وقتٍ سابق، وما رفع مستويات الاهتمام بهذه الزيارة، هو ما قاله يوري أوشاكوف مساعد الرئيس الروسي للشؤون الدولية، حول أن «موسكو تولي أهمية كبرى لجولة المحادثات، وبالدرجة الأولى مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان». الوفد الروسي الموسع، وعلى رأسه رئيس الاتحاد الروسي، ناقش عدداً كبيراً من الملفات، وجرى الحديث عن مجالات التعاون الثنائي المختلفة السياسي والاقتصادي والأمني، وأطلق المسؤولون المختلفون عدداً من التصريحات التي أكدت أن العلاقات الثنائية بين روسيا والإمارات من جهة، وبين الأولى والسعودية من جهة ثانية، تدخل بالفعل مرحلة جديدة غير مسبوقة، بعد أن شهدت في السنوات الماضية تطوراً في مجالات مختلفة، واختبرت هذه الدول جدية المساعي في هذا السياق.
البيان الصادر عن لقاء بوتن مع بن سلمان، أشار إلى الخطوط العريضة لعدد كبير من الملفات، مثل: ضرورة وقف إطلاق النار في غزة، وعرّج على اليمن وسورية والسودان، وثمّن التحسن الذي تشهده علاقات السعودية مع إيران، ونقاطاً أخرى كثيرة. وفي النظر إلى طبيعة اللقاء، يبدو واضحاً قيمته الرمزية، فهناك من دون شك مسائل كان ينبغي أن تحسم على أعلى المستويات، وهي ما قد تبرر انعقاد القمة على هذا المستوى، لكن اللحظة التي اختار فيها الرئيس الروسي القيام بهذه الزيارة ليقوم الرئيس الإيراني بزيارة سريعة إلى موسكو بعد عودة بوتين، أكدت أن مشاورات عالية المستوى تجري بين هذه الدول، وتلعب موسكو دوراً مهماً في سبر الآراء وإدارة الظرف الحساس الذي تعيشه المنطقة، وتعمّق بالوقت نفسه الروابط التي تجمعها مع دول مؤثرة في الشرق الأوسط، تمهيداً لمرحلة لاحقة تتضح ملامحها تدريجياً.

العالم يرسم من جديد

قد يبدو ما يجري في غزة بالنسبة للبعض حدثاً محلياً، في الوقت الذي أصبح من الواضح أن التطورات اللاحقة ستكون مؤثرة بشكل كبير في رسم خريطة المنطقة، وتسريع انحسار النفوذ الأمريكي، ومن هذه النقطة بالتحديد تنظر القوى العظمى إلى ما يجري في منطقتنا، وتحاول تحميل واشنطن أكبر خسارة ممكنة، دون أن تنتقل إلى مواجهة إقليمية واسعة، فالأرضية التي نقف عليها اليوم وبالرغم من قسوة الأسابيع الماضية، إلا أنها ستكون ذات نتائج إيجابية لا على القضية الفلسطينية فحسب، بل على مجمل الملفات العالقة في المنطقة، فكل خسارة للكيان وواشنطن تعني إضعافاً في قدرتهما، وقدرة أدواتهم الأخرى التي يعتمدون عليها، في إدامة حالة الفوضى وتوسيع رقعتها.

نقلت وكالات الأنباء، أن طائرة الرئيس الروسي وفي أثناء توجهها إلى الخليج العربي رافقتها 4 مقاتلات حربية من طراز Su-35S، في حادثة لم تتكرر، منذ رافقت طائرات مقاتلة ستالين إلى مؤتمر طهران 1943، على الرغم من الاختلاف بين الحادثتين، وظروف حدوثهما، إلا أنّ العالم عام 1943 كان يعيش مرحلة مخاض عسير، وهناك في طهران بدأت القوى الرئيسية الثلاث تضع الملامح الأولى لعالم ما بعد الحرب، اليوم نشهد مستوى عالي التصعيد، ويعيش العالم في حالة من التوتر تشبه إلى حد كبير ذلك الذي رافق مؤتمر طهران، وهنا تبدو الاتصالات واللقاءات التي تجري مؤخراً، وتحديداً بين دول الجنوب- التي تضم «بريكس» ومعظم المؤثرين- بوصفها خطوات متقدمة ترسم اليوم، وتحت الرصاص، ملامح المرحلة القادمة التي ستنهي حتماً الهيمنة الأمريكية على العالم، وتنهي أيضاً احتكار واشنطن لجملة من الملفات التي عملت على تعطيلها وتعقيدها بدلاً من حلّها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1152
آخر تعديل على الإثنين, 18 كانون1/ديسمبر 2023 11:13