هل ستستقر الليرة ونشهد أمراء الحرب في قاعات البزنس مجدداً؟

هل ستستقر الليرة ونشهد أمراء الحرب في قاعات البزنس مجدداً؟

ها هو سعر الصرف ومستويات الأسعار تستقر نسبياً لمدّة شهرين على التوالي، وهو أمر يستحق الرصد في الوضع السوري، بعد أن أصبح المسار المتدهور لليرة متسارعاً منذ نهاية عام 2018، وقد بلغ ذراه في الأشهر الثلاثة الأولى من 2020 ومن العام الحالي. فهل هذا الاستقرار الحالي مستدام؟ وبماذا يرتبط؟ وما علاقة أمراء الحرب؟

لاستقرار الليرة محددات عديدة تتعلق بالاقتصاد وقوانين السوق، ولكن، كما في أي مكان في العالم تمارس السياسة والسياسات دورها في التأثير على هذه المحددات، حيث القوّة السياسية الضاربة تحوّل النشاط الاقتصادي ليلائمها، وهي في الحالة السورية: أمراء الحرب، مالكو أكبر الموارد والقادرين على تجيير القانون. وهو ما سنشرحه تالياً...

وفرة البضائع والدولار كشرط أمر واقع

تستقر الأسعار كنتيجة لجانبين أساسيين، الأول: حركة البضائع، والثاني: حركة النقود. مثلاً: يبقى سعر كغ الفروج على حاله عندما تنتج منه كميات تتناسب مع الطلب عليه (حركة البضائع)، وعندما يستقر سعر الدولار مقابل الليرة (حركة النقود) وذلك لكون معظم المنتجات السورية مسعّرة بالدولار، فمعظم تكاليفها مستوردة: 70% وفق تقديرات وزير الاقتصاد للمنتجات الزراعية المحلية.
وعملياً يستقر السعر عندما يغطي الإنتاج السوق، ويتوفر الدولار للإنفاق على الإنتاج. وليبقى الوضع دون تدهور يجب ألّا يتراجع الإنتاج وألّا يتم احتكار الدولار. والمعضلة الفعلية في تحقيق هذين الأمرين هي: قطّاع الظل الكبير، ونشاط أمراء الحرب تحديداً. لماذا؟

ما علاقة أمراء الحرب بالإنتاج والدولار؟

شريحة أمراء الحرب هي المعتمدة على النفوذ وقوّة السلاح للنشاط في قطاعات الظل: التهريب والمخدرات والمصادرات والمسروقات والعملة وغيرها، وتتدفق إليهم وعبرهم الكتلة الأكبر من الدولار، وهم من يستطيعون احتكاره والربح من المضاربة عليه.
كما أنهم غير معنيين بالإنتاج إلّا بمقدار (سلبطتهم) على المنتجين: عبر الإتاوات المدفوعة على الطرق، على سبيل المثال لا الحصر، أو عبر تهريب المنتجات للخارج.
وهنا يتمثل أحد أوجه الترابط المتين بين الوضع الاقتصادي والسياسي في الحالة السورية، فسياسياً هؤلاء قوّة مؤثرة على النشاط الاقتصادي وعلى القرار.
ومنذ نهايات عام 2018 مع تشديد العقوبات والتضييق الاقتصادي شهد هؤلاء ذروة هيمنتهم ونشاطهم، فأولاً: تمّ الاعتماد على (المحظيين) منهم لتأمين حاجات البلاد المتراجعة من الطاقة والقمح وغيرها بأرباح استثنائية، وبالتالي أتيح لهم التحكم بأساسيات الحياة الاقتصادية والتسعير. وثانياً: تمّ السماح لهم بالوصول إلى معظم تدفقات القطع الأجنبي الوارد من الحوالات (التي كانت تصل بمجملها تقريباً عبر السوق السوداء نظراً لإبقاء سعر الصرف الرسمي أقل من سعر السوق بنسبة 40% تقريباً). وثالثاً: لم تتم أية عمليات كبح جدية لنشاطهم الأسود الفاقع المتمثل بشحنات قياسية من الكبتاغون والحشيش، وتخرج من الموانئ المحلية إلى موانئ في أوروبا والخليج ومصر. ورابعاً: نستطيع القول: إنّه تمّ السماح لهم بالاستفادة حتى من قوانين ومراسيم (ضبط احتكار الدولار) حيث أصبح بمتناول أجهزة تنفيذية مرتبطة بالفساد الكبير أن تقوم بالضغط على قوى السوق عبر عدم وضوح قوانين تجريم حيازة الدولار، وقد جرت خلال العامين الماضيين العديد من حالات الابتزاز التي يوقف بموجبها تجار بتهمة امتلاكهم للدولار أو تسعيرهم على أساسه، لتتم تسوية أوضاعهم مقابل مدفوعات مالية ودون أحكام!

سياسات ما قبل الانتخابات و«كبح المضاربة»

استمرت هذه الاتجاهات حتى ما قبل الانتخابات بشهرين تقريباً، ثمّ فجأة بدأ تعديل في السياسات ضمن مسعى سياسي واضح لتقليص عمليات المضاربة على الليرة.
أهم التعديلات كانت: رفع سعر الحوالات الرسمي ليقارب سعر السوق، ما أدى لزيادة تدفق الدولار عبر الطرق النظامية، وإتاحة شراء الدولار للتجار ورجال الأعمال من مكاتب الصرافة، ومؤخراً إعادة تمويل المستوردات الأساسية عبر المصارف، وكلاهما بسعر قريب من سعر السوق. وكل هذا يؤدي إلى توحيد سعر الدولار وتقليص حوافز المضاربة، وزيادة كميات القطع المتاحة عبر القنوات الرسمية.
الجانب الآخر من التعديلات، هو تشديد سياسة (حبس الليرة)، عبر السعي لتقليص كتلة الليرة السورية الموجودة في التداول الكاش. وذلك عبر تقييد كميات السحب اليومي من الأرصدة الموجودة في المصارف بالليرة، وتقييد كميات نقل وتحويل الأموال بين المحافظات، ومؤخراً إجراءات تلزم بزيادة كتلة الليرة المودعة في المصارف، ومنها مثلاً: توجيه للجمارك بألّا تصادق على شيك يدفعه تاجر من حسابه في بنك، إلّا بعد أن يودع مبلغاً مماثلاً في هذا الحساب. ما يعني أن التاجر يدفع شيكاً للجمارك من حسابه بقيمة 50 مليون ليرة، عليه أن يودع قبلها 50 مليون ليرة في حسابه كي لا ينقص، وهذه بمفهوم التاجر زيادة تكلفة المستوردات بنسبة 100% لأنه سيضطر لتخصيص 100 مليون ليرة لعملية تكلفتها الفعلية 50 مليون!

هل تضمن السياسات الجديدة الاستقرار؟

ينبغي القول: إن هذه الإجراءات تؤدي بالتأكيد إلى لجم المضاربة نسبياً، وتحديداً الجزء المتعلق بتحويل جزء هام من حركة الدولار إلى السوق النظامية... وهي إجراءات كان ينبغي اتخاذها من عامين على الأقل، وليس من شهرين فقط!
ولكن، الجزء الآخر وهو تقييد الليرة يضرّ بالإنتاج المحلي وحركة السوق ويزيد التكاليف عملياً، لأنه يقيد كتلة الليرة اللازمة لعمليات الإنتاج والتداول ويؤخرها، والوقت له ثمن في الإنتاج.
الأهم من هذا تحديداً مع عدم وجود حلول بديلة جدية لمستوردات الطاقة إذ لا نزال نؤمن طاقة أقل من ثلث الحاجات! وإنتاج الكهرباء والمحروقات بحدود دنيا تضع حدوداً للإنتاج والنقل.

ما بديل أمراء الحرب عن المضاربة والفوضى؟

لكن ماذا عن أمراء الحرب؟ أليس من مصلحتهم استعادة القدرة على المضاربة؟
يمكن القول: إن ما يجري بمثابة تسوية مؤقتة مع أمراء الحرب ليخففوا من نشاط المضاربة، وهي لن تكون مستدامة ما لم يتم تأمين بدائل رابحة لهم. وهذا ما حصل في عامي 2017-2018 عندما ضُبطت المضاربة واستقر الدولار، وبدأ أمراء الحرب يبيّضون أموالهم بالنشاطات العقارية الكبرى، كما في مشاريع كفرسوسة وشراء أكبر الفنادق وغيرها، وحتى في شراكاتهم واستفادتهم من عقود سيادية.
اليوم أيضاً، يمكن قراءة قانون الاستثمار الجديد بمثابة إطار لهؤلاء ليعززوا انتقالهم من أمراء ظل إلى رجال بزنس، وهو ما يُتوقع حدوثه. ولكن «ما كل ما يتمنى المرء يدركه» فهذه المسألة أيضاً مشروطة بالسياسة: الإقليمية والدولية.
وأيضاً، بالقياس على فترة 2017-2018 فإن «مرحلة الاستقرار والبزنس» المؤقتة توقفت نتيجة الظرف الدولي منذ 2019: تشديد العقوبات، تجميد التسوية السياسية السورية، انسحاب وهروب الأموال المستمر إلى الإمارات ولبنان وغيرها. وعاد أمراء الحرب ليوسعوا نشاطهم غير الشرعي، ويزيدوا الضغط على المجتمع والإنتاج والليرة إلى حد بعيد.
فماذا عن اليوم؟ إن انتقال أمراء الحرب إلى صفة «مستثمرين سلميين» عملية لن تتم إلّا إذا كانت أرباح السلم مضمونة عبر انفتاح باب أموال «إعادة الإعمار» الذي يترقبون من خلاله توافد الأموال السورية في الخارج وأموال الخليج وغيره من الشركاء الدوليين. لأن أمراء الحرب إن كانوا يملكون موارد سورية ودمارها ويريدون عرضها للبيع لا بدّ أن يتوفّر «مشترٍ محرز»، ودون شراكات خارجية وأموال فإن صفقة انتقالهم السلمي للاستثمار لن تتم، وسيعودون إلى نشاطهم الإجرامي المربح ومن ضمنه: المضاربة على الليرة.
فهل ستبدأ تدفقات الأموال من الخارج؟ هنا تعود الأمور مجدداً للسياسة، دون تسوية دولية وإقليمية يديرها بل ويحرضها السوريون فإن البلاد لن تشهد أي تغيير يذكر: لا رفعاً للعقوبات، ولا إشارة للمستثمرين الخارجيين بأمان جدي لاستثماراتهم، ولا استقراراً سياسياً مستداماً. والأهم من هذا وذاك، أنّه دون تسوية سياسية لن يكون بمقدور عموم السوريين أن يناهضوا واقعاً يقبع فوق قلوبهم، وينزعوا فتيل الانفجار المتمثل: بجوع وحرمان وتهجير الملايين.

 

English copy

معلومات إضافية

العدد رقم:
1021
آخر تعديل على الجمعة, 25 حزيران/يونيو 2021 20:37