بين السيرقوني و السيكلما: طلقات المخزن الأخيرة

واضعاً سماعتيه في أذنيه يستمع إلى موسيقاه المفضلة، فهو كما يقول عنه أصحابه «صاحب مراق الضرسان»، يحاول قدر الإمكان ألا تشوشه أصوات المحيط، فالتركيز عنصر أساسي في عمله، يقطع عليه تركيزه ارتجاج في مؤخرة بنطاله، إنه الهاتف النقال، كالعادة صامت حتى لا يكشف موقعه، يسحبه بهدوء، يفتح الخط ويستمع إلى كلمات قائده، يردد: إيقاف العمليات، نعم فهمت سيدي، إيقاف جميع العمليات. حاضر سيدي. يغلق الخط، يتأمل للحظات، كأنه لم يفهم بعد معنى الكلمات، ينظر إلى الشارع، لم يتغير شيء مازال بعض المارة يمشون قرب الجدران، بمسافات متباعدة عن بعضهم البعض، بسرعة بطيئة نسبياً، بمسار ذي خطوط متعرجة، في إشارة إلى كونهم من المدنيين. يحك جلدة رأسه، يحرك عضلات خده وفمه إلى الجانب اليساري. يأخذ لفافة تبغ لفها عند الصباح من العلبة المعدنية، يبتعد إلى زاوية الغرفة، يجلس على الأرض ويدخنها، ينفث دخانها دوائر، إنه بارع بهذا أيضاً، يحس نفسه مثل أولئك الهنود الحمر في أفلام الكرتون الأميركية، الذين يصنعون دوائر من الدخان كإشارات للبعيدين، لكن دوائره له فحسب.

يشرد قليلاً، يقوم ليلملم أمتعته، علبة السردين الباقية، الرغيفين الباقيين، علبة المتة والكأس والمصاصة، وبعضاً آخر من أشيائه، يترك بندقيته في وضع الاستعداد، يمسك علبة الطلقات الفارغة، ينظر إلى المخزن، .....ماذا سيفعل بطلقات المخزن الأخيرة؟ يقرر أن يشعل آخر لفافة في العلبة، إنها دوماً الألذ والاستمتاع بها لا يضاهيه استمتاع، يسحب نفساً عميقاً، ويتركها بجانبه، يغمض عينيه ويرفع تركيزه إلى الدرجات القصوى، وينفث كل ما في رئتيه، يركز ويصوب إلى شجرة بعيدة يقف عليها ذكر عصفور دوري وحيد نافشاً رياشه في هذا البرد، تك، تتناثر الأرياش حول الشجرة، كشلال بطيء، يركز ويصوب على قطة ترفع رجلها في حركة متكررة لتنفض عن خلف أذنيها بعض البراغيث العالقة، تك، تتناثر أشلاء دماغها لتلتصق على الجدار القريب، يتنفس الصعداء، يطوي بندقيته وهو يشعر بنشوة عارمة، يحمل أمتعه وينزل الدرجات بثقة كبيرة، أنجزت المهمة.