سيرة ذاتية
النديم بو ترابة النديم بو ترابة

سيرة ذاتية

أيقنت بعد سماع دويِّ الصدى أن أجلي قد حان، ولن يفلح القدر هذه المرة بتعطيلي عن الموت قالت لي التي خلفي كلنا على هذا الطريق، كان وجهها فتيا أكثر مني ربما لم يتاجروا بها كثيراً مثلي ... صعدت إلى الحجرة الحديدية الضيقة ريثما يتم إعدامي ...،

يقال في سكرات الموت يستعيد المرء شريط حياته بومضات سحرية، لذلك حاولت إرجاع ذاكرتي قبل بدء فعل القتل، تذكرت وجه الطبيب الذي حملني ليتفحصني والذي خلته من طراوة و رقة لمساته والدي، لكنني كرهته عندما وافق على قرار خروجنا من الملجأ، وباعنا لرجل نزق ذي قبعة دائرية صغيرة في أسفل رأسه كنت أسترق أنا وأخواتي النظر إليها ونضحك من صغرها ...

لن تطول إقامتنا في مستودع الرجل ذي القبعة الدائرية لأن سيارة ستحملنا في رحلة صحراوية جبليَّة طويلة إلى رجل ذي شاربين قاسيين كخرائط وجهه، كانت أنفاسه عنوان القادم ... تفحصنا بعجل وفور استلامنا وزعنا على مقاتليه كمحظيات لنشدَّ من أزر المقاتلين، هناك كان صراخ أخواتي في الخيام البعيدة قد تكفلَّ بإرهاب وإلهاب الليالي ... وجه مقاتلي أكثر هُزلا من قائده بشاربيه الرفيعين لكنه أقل قسوة منه، لم يلمسني إلا مرّة عندما أخرجني فجراً من الخيمة بذعر لكنه سرعان ما أعادني نادماً، لم يكن يداعبني كالآخرين فما كان يفضله علي آلة لها عصا طويلة بقي يكلمها حتى مصرعه بلغة شجيّة تشبه صوت حارس الملجأ.

بعد مقتل المقاتل مع كثير من رفاقه، عدنا ورأينا ذا الشاربين القاسيين الذي جمعنا من الخيام كما وزعنا ووضعنا في شاحنة لرجل قصير القامة يشبه بنزقه صاحب القبعة الصغيرة جداً، سمعت الكلمات الأخيرة بين الرجلين، فقد طلب سائق الشاحنة المزيد لأن المعارك باتت قريبة خلف النهر وسوف يحتاج المقاتلون إلينا في ليل المعارك الضارية ...

أخذت الشاحنة تشق الصقيع والجبال، لم تكن وجوه الأخريات تحمل أي أثر للأحلام، ماذا تحلم الرهينة في شاحنة الشتات ... الضباب يكثف برد الجبال كله و الطريق بحكمته الطويلة لا يحب العجولين.

عند السَحر بدأت الشاحنة باختيار ممرات ضيقة متخفية.. حتى انتهى الطريق في واد من المغر الصخرية، لم يستقبلنا رجل واحد بل تحوم الرجال حولنا و توزعنا بينهم، ظننت أننا سندخل للكهوف إلا أن الرجال أمسكونا بأيديهم متلهفين وبدأ برحلة جديدة، كان وجه مقاتلي الجديد يشبه وجه رفاقه  بلحيته الطويلة و وجهه البائس لذا لم أميز ملامحه و لم أحبها، ماتت الكثير من الأخريات قبل الوصول بقليل، لا أدري بأي مدينة محتضرة نحن لكنها كانت تعج بحركة الخراب والقوافل الهاربة، صعد مقاتلي الجديد لحظة  وصوله إلى سطح بناء مملوء بأوساخ المحاربين وقبل ان يبدأ عمله بالحصاد وبإعادة العدم أيقظني صراخه لموعدي مع حتفي، ربما أصيب وهو الآن ينزف ... عادت الحجرة صغيرة من جديد، سمعت التي خلفي تقول: أصعب من إعدامك إعدام الذي أمامك ... باب الحجرة يغلق بإحكام، يتقدم السيف نحوي من الخلف ...أصبحت كلمات المحارب خفيفة جداً ... بدأت أركض في نفق ضبابي، كان دافئا كأي معبر نحو الخلود لكنه يسرِّع من خطواتي ...قذفني المعبر، أحسست بالبرودة لكن التحليق في البعيد عما كان أشهى من مخاوف الجسد... تذكرت لغة المحارب ذي الشاربين الرفيعين مع عصاه ...تذكرت حارس الملجأ الذي وعدناه ونحن صغار بألا نؤذي أحدا، قال لنا أن الصالحة تدخل في الجنة وهي التي تختار مصيرها ... أمامي الكثير من الناس وكلام الحارس يرجّ في أذني، إنها هي ... أمي، لم أيأس من حلم اجادها، كانت تقف بين المتجمعين للهرب، سيدة في الأربعين من تعبها، ناديتها فلم تجبني فحلقت بلهفة باتجاهها، كنت مشتاقة لحضنها فاختبأت في ضرعها الممتلئ الدافئ ... من شدة اشتياقها لي حضنتني بكلْتا يديها وبدأت بالصراخ ... خافت علي أن يسترجعني ذو الشاربين السميكين والوجه المحفور فارتمت بي على الأرض ...

هناك نمت في الأبديّة الطويلة معها وبقيت يداها مضمومتين إلي ...