جعل غزة غير قابلة بيئياً للحياة هدف «لإسرائيل»
جوشوا فرانك جوشوا فرانك

جعل غزة غير قابلة بيئياً للحياة هدف «لإسرائيل»

تهدف «إسرائيل» اليوم إلى تدمير غزة، وجعلها منطقة غير قابلة للسكن بشكل كلي. كما لو أن القصف العشوائي، والذي أدى بالفعل إلى إتلاف أو تدمير ما يجاوز 70% من إجمالي منازل غير غزة كافية، فإنّه يريد الإجهاز على بيئتها وأرضها وكلّ شيء يعيش فيها. ويقول عبد الرحمن التميمي، مدير مجموعة الهيدرولوجيين الفلسطينيين، وهي أكبر منظمة غير حكومية تراقب التلوث في الأراضي الفلسطينية «سيصبح قطاع غزة منطقة خالية من السكان، وسوف يستغرق الأمر حوالي 100 عام للتخلص من الآثار البيئية لهذه الحرب».

ترجمة: قاسيون

خلال العام وبشكل وسطي، كانت غزة تنتج أكثر من 5,000 طن من زيت الزيتون من أكثر من 40,000 شجرة. كان موسم الحصاد في شهري تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر بمثابة موسم احتفالي لآلاف الفلسطينيين لفترة طويلة. غنّت العائلات والأصدقاء، وشاركوا وجبات الطعام، وتجمعوا في البساتين للاحتفال تحت الأشجار القديمة، التي ترمز إلى «السلام والأمل والرزق». كان ذلك تقليداً مهماً، وارتباطاً عميقاً بالأرض وبمورد اقتصادي حيوي. العام الماضي، شكّل محصول الزيتون أكثر من 10% من اقتصاد غزة، بإجمالي 30 مليون دولار.
لكن بطبيعة الحال، منذ 7 أكتوبر، توقف الحصاد. وبدلاً من ذلك، أدت تكتيكات الأرض المحروقة التي اتبعتها «إسرائيل» إلى تدمير عدد لا يحصى من بساتين الزيتون. وتؤكد صور الأقمار الصناعية التي تم نشرها في أوائل كانون الأول أن 22% من الأراضي الزراعية في غزة، بما في ذلك عدد لا يحصى من بساتين الزيتون، قد تم تدميرها بالكامل.
يشرح أحمد قديح، المزارع من بلدة خزاعة جنوب القطاع «نحن حزينون على محاصيلنا التي لا نستطيع الوصول إليها. لا نستطيع ري أرضنا أو مراقبتها أو الاعتناء بها. بعد كل حرب مدمرة، ندفع أموالاً طائلة لضمان جودة محاصيلنا ولجعل تربتنا صالحة للزراعة مرة أخرى».
تسبب القصف العسكري «الإسرائيلي» المتواصل لغزة في خسائر فادحة في الأرواح البشرية «أكثر من 22000 قتيل، بما في ذلك أعداد كبيرة من النساء والأطفال وآلاف الجثث الأخرى التي يعتقد أنها مدفونة تحت الأنقاض ولا تعد ولا تحصى». لنعتبر هذه الجولة الأخيرة من الرعب مجرد استمرار قاتم لحملة مستمرة منذ 75 عاماً تهدف إلى انتزاع التراث الثقافي الفلسطيني. منذ عام 1967، اقتلعت إسرائيل أكثر من 800.000 شجرة زيتون فلسطينية محلية، أحياناً لإفساح المجال أمام مستوطنات غير قانونية جديدة في الضفة الغربية؛ وفي حالات أخرى، بسبب مخاوف أمنية مزعومة!
يحصد سكان المنطقة بساتين أشجار الزيتون البرية منذ آلاف السنين، ويعود تاريخها إلى العصر النحاسي في بلاد الشام (4300-3300 قبل الميلاد)، وكان لتجريف هذه البساتين عواقب بيئية كارثية. وفقاً لمراجعة ييل للدراسات الدولية لعام 2023 «ترتبط إزالة الأشجار ارتباطاً مباشراً بتغير المناخ الذي لا رجعة فيه، وتآكل التربة، وانخفاض المحاصيل… يعمل اللحاء الخشبي المعمر كمخزن للكربون... تمتص شجرة الزيتون 11 كجم من ثاني أكسيد الكربون لكل لتر من زيت الزيتون المنتج».
إلى جانب توفير محصول قابل للحصاد وقيمة ثقافية، تعتبر بساتين الزيتون حيوية للنظام البيئي في فلسطين. تعتمد العديد من أنواع الطيور، بما في ذلك طائر القيق الأوراسي، والعصفور الأخضر، والغراب المقنّع، والصرد المقنع، وطائر الشمس الفلسطيني، وطائر الدخلة السردينية، على التنوع الحيوي الذي توفره الحياة البرية في فلسطين. أشجار، ستة أنواع منها تتواجد غالباً في بساتين الزيتون المحلية، الصنوبر الحلبي، اللوز، الزيتون، النبق الفلسطيني، الزعرور الصنوبري، والتين.
كتب سيمون عوض وعمر عتوم في عدد 2017 من المجلة الأردنية للتاريخ الطبيعي «يمكن اعتبار بساتين الزيتون في فلسطين مناظر طبيعية ثقافية أو يمكن تصنيفها كأنظمة زراعية ذات أهمية عالمية بسبب الجمع بين تنوعها الحيوي وقيمها الثقافية والاقتصادية. وقد تم الاعتراف بقيمة التنوع الحيوي لبساتين الزيتون التاريخية في أجزاء أخرى من البحر الأبيض المتوسط، حيث اقترح البعض أن هذه المناطق يجب أن تحظى بالحماية لأنها موطن تستخدمه بعض الأنواع النادرة والمهددة بالانقراض، كما أنها مهمة في الحفاظ على التنوع الحيوي الإقليمي».

الفوسفور الأبيض والقنابل

بينما تقوم «إسرائيل» بتلويث طبقات المياه الجوفية واقتلاع بساتين الزيتون، فإنها تقوم الآن أيضاً بتسميم غزة من الأعلى. تم تحليل العديد من مقاطع الفيديو بوساطة منظمة العفو الدولية، وأكدت Washington Post أنّ مشاعل وأعمدة الفوسفور الأبيض تنهمر على المناطق الحضرية المكتظة بالسكان. استُخدم الفوسفور الأبيض لأول مرة في ساحات القتال في الحرب العالمية الأولى لتوفير غطاء لتحركات القوات، ومن المعروف أنه سام وخطير على صحة الإنسان. ويعتبر إسقاطه على البيئات الحضرية الآن غير قانوني بموجب القانون الدولي، وتعد غزة واحدة من أكثر الأماكن كثافة سكانية على وجه الأرض. تقول لما فقيه، مديرة قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في هيومن رايتس ووتش «في أي وقت يتم فيه استخدام الفوسفور الأبيض في مناطق مدنية مزدحمة، فإنه يشكل خطراً كبيراً للإصابة بحروق مؤلمّة ومعاناة مدى الحياة».
على الرغم من أن الفوسفور الأبيض شديد السمية بالنسبة للبشر، إلا أن التركيزات الكبيرة منه لها أيضاً تأثيرات ضارة على النباتات والحيوانات. يمكن أن يعطل تكوين التربة، مما يجعلها حمضية للغاية لزراعة المحاصيل. وهذا مجرد جزء واحد من جبل الذخائر الذي أطلقته «إسرائيل» على غزة خلال الأشهر الثلاثة الماضية. كانت الحرب «إذا كان بإمكانك تسمية مثل هذا الهجوم غير المتكافئ بـ «الحرب»» هي الأكثر فتكاً وتدميراً في الذاكرة الحديثة، وفقاً لبعض التقديرات على الأقل. فهو بسوء قصف الحلفاء لألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، والذي أدى إلى تدمير 60 مدينة ألمانية وقتل ما يقدر بنحو نصف مليون شخص.
يقول روبرت بيب، المؤرخ في جامعة شيكاغو «إن غزة هي واحدة من أشد حملات العقاب المدنية في التاريخ. وهي الآن تحتل موقعاً مريحاً في الربع الأعلى من حملات القصف الأكثر تدميراً على الإطلاق». لا يزال من الصعب فهم الخسائر التي تحدث يوماً بعد يوم، وأسبوعاً بعد أسبوع، ليس فقط على البنية التحتية والحياة البشرية في غزة، بل على البيئة أيضاً. كل مبنى ينفجر يترك سحابة باقية من الغبار السام والأبخرة المسببة للاحتباس الحراري.
كان محور المعضلة التي واجهها الفلسطينيون في غزة، حتى قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، هو الحصول على مياه الشرب النظيفة، وقد تفاقمت هذه المشكلة بشكل مروع بسبب القصف الإسرائيلي المستمر. وأشار تقرير صادر عن اليونيسف عام 2019 إلى أن «96٪ من المياه من طبقة المياه الجوفية الوحيدة في غزة غير صالحة للاستهلاك البشري».
كما أدّى انقطاع الكهرباء، كنتيجة مباشرة للحصار «الإسرائيلي»، إلى تدمير مرافق الصرف الصحي في غزة، مما أدى إلى زيادة تلوث المياه الجوفية، الأمر الذي أدى بدوره إلى إصابات مختلفة وتفشي أعداد كبيرة من الأمراض المنقولة بالمياه والتي كان بالإمكان الوقاية منها. بحسب منظمة هيومن رايتس ووتش، تستخدم «إسرائيل» نقص الغذاء ومياه الشرب كأداة للحرب، كشكل من أشكال العقاب الجماعي.
إن العنف الذي تمارسه «إسرائيل» على الفلسطينيين والمدعوم بشكل لافت للنظر من قبل الأمريكيين، لا يشبه أي شيء شهدناه سابقاً. إن غزة وشعبها والأراضي التي دعمتهم لقرون يتم تدنيسها وتحويلها إلى منطقة جحيم غير قابلة للعيش على الإطلاق، وسيكون تأثيرها محسوساً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1157