ميلانشون: المحكمة أحرجت «الإسرائيليين» والأمريكيين أمام العالم
جان لوك ميلانشون جان لوك ميلانشون

ميلانشون: المحكمة أحرجت «الإسرائيليين» والأمريكيين أمام العالم

ذهب جان لوك ميلانشون، مرشّح الرئاسة الفرنسي ثلاث مرّات، إلى محكمة العدل الدولية للاستماع إلى القضيّة التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد الإبادة الجماعية «الإسرائيلية» في غزة. لم يُسمح إلّا لعددٍ قليل من الأشخاص بالدخول إلى الجلسة العامة في محكمة العدل الدولية، وكان ميلانشون بينهم. جان لوك، وهو منتقِدٌ يساريّ لدعم باريس «لإسرائيل»، يتحدّث عن سياسة مبنيّة على احترام القانون الدولي. بعد الوقوف في الطابور منذ الساعات الأولى من الصباح لمشاهدة إجراءات محكمة العدل الدولية، علَّقَ ميلانشون على ما رآه في قاعة المحكمة. إليكم تالياً كلماته في هذا الخصوص...

ترجمة: قاسيون

انتهينا للتوّ من الجلسة الأولى للإحالة إلى محكمة العدل الدولية. كان اليوم هو اليوم المناسب لأصحاب الدعوى، إذا جاز التعبير، لعرض قضيتهم أمام المحكمة. جنوب أفريقيا هي لاعبُ اللّحظة، قبل أن تُضطَرَّ حكومة نتنياهو إلى الردّ على القضية في اليوم التالي.
هذه وحدها لحظةٌ عظيمة. لماذا؟ لأننا منغمسون جداً في الوضع المروّع والمخزي الذي نعرفه جميعاً بالفعل. أقول إنّه من المخجل أنّ مجموعة الدول الكبرى التي تُحاضِرُ العالمَ أجمَع في كلّ فرصة، وتطالب بفرض عقوبات على هذه الدولة أو تلك، قد صمتت الآن وسمحت بما هو، على أقلّ تقدير، عددٌ متزايد من جرائم الحرب.
ما تقوله جنوب أفريقيا هو أننا أكثر من مجرّد مشاهدين لسلسلةٍ من جرائم الحرب، وبأننا نتعامل اليوم مع شيء مختلف نوعياً. باعتبارها دولةً موقِّعة على اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقَبة عليها، فإنها تستخدم حقّها للإشارة إلى أنّ هناك مسألةَ إبادةٍ جماعية. سأترك الاعتبارات القانونية البحتة جانباً في الوقت الحالي. إذاً، لماذا هذه لحظةٌ عظيمة؟ لأنها إحدى لحظات عودة الإنسانية. إننا لا نرى هذا الشعب الإنساني إلا من خلال القانون الدولي، ومن خلال العمل الجماعي.
قد يكون القانون الدولي غير كامل. لكنّه على الأقل موجود، ونحن هنا في مكان يسمح لنا بالحصول على حجّة، وحجّة مضادّة، وحُكم، والذي يجب بعد ذلك احترامُه. يعلم الجميع أنه إذا خلصت هذه المحكمة إلى أنّ هناك بالفعل أعمالاً تنطوي على خطر الإبادة الجماعية، فمن الواضح أنّ هذا من شأنه أنْ يغيّر الوضع السياسي والقانوني تماماً بالنسبة لجميع أولئك الذين يساعدون حكومة «إسرائيل» بطريقة أو بأخرى.
هناك نقطة يجب أن نفهمها، لم أكنْ على علمٍ بخفاياها قبل مجيئي إلى هنا؛ السؤال الجوهري المطروح أمام المحكمة هو، بالأساس، هل هذه إبادةٌ جماعية أم لا؟ لكن هذا ليس ما يجب على المحكمة أنْ تقرِّرَه الآن. سيتمُّ الحكمُ على هذا السؤال الأوسع على أساس تفاصيل كثيرة، وسوف يستغرق ذلك بعض الوقت. لكن في الوقت الحالي، تنظر المحكمة في طلب «التدابير المؤقَّتة» لمنع الإبادة الجماعية، الأمر الذي يتطلّب اتخاذَ إجراءاتٍ فورية، ربّما بما في ذلك وقف إطلاق النار.
لهذا السبب يجب علينا أولاً أنْ نقدّم مليون شكرٍ لحكومة جنوب أفريقيا لاتخاذها هذه المبادرة. باعتباري أحدَ ممثّلي دولةٍ لم تتقدّم بهذا الطلب، يمكنني أنْ أؤكّد لكم أنني لا أشعر بالفخر بهذه الدولة. لذا فإنّ ما يتعيّن على المحكمة أن تحكم فيه هو ما إذا كانت ستتخذ الإجراءات المؤقَّتة التي طلبتها جنوب أفريقيا لصالح الفلسطينيين وسكان غزة. إذا كانت هناك عوامل تشير إلى أن الأمر سينتهي بإبادة جماعية، فإن المحكمة لديها صلاحية القول «توقف»، واتخاذ القرار. لن تكون هذه هي المرة الأولى، وهذه ليست حالة خاصة. وقد حكمت المحكمة بالفعل في قضايا مماثلة حيث كان هناك الاتهام نفسُه بالإبادة الجماعية، على سبيل المثال «الإبادة الجماعية» ضد شعوب الروهينجا. وقد تم الاستشهاد بالعديد من هذه الأمثلة في القضية الرائعة التي قدمتها جنوب أفريقيا هذا الصباح. سيتم اتخاذ القرار بسرعة، لأن هذه إجراءاتٌ مؤقتة ضدّ مجزرةٍ ذات عواقب لا يمكن إصلاحها.
يستخدمون الإبادة الجماعية حتّى في خطابهم
ما أذهلني بشكلٍ خاصّ هو مدى استخدام السلطاتِ «الإسرائيلية» نفسِها للُغةِ الإبادة الجماعية. يمكنك رؤية العنف في تعليقاتهم؛ من قبل نتنياهو وأيضاً من قبل وزير العدل ووزير القوات المسلحة وقائد القوات المسلحة. لا يقتصر الأمر على أنّ شخصاً واحداً، في لحظة عاطفية، أدلى بتصريحاتٍ ذات طبيعةِ إبادةٍ جماعية. صُدِمتُ عندما سَمعتُ أنّ نتنياهو يستخدم الكتابَ المقدَّس ليوصي بذبح الجميع.
هناك الكثير من الاقتباسات، والعديد من الأمثلة المقدَّمة التي أَظهرتْ أنّه على أساس هذه التحريضات في أعلى مستويات الدولة، وحتى بين القوات، بشكل فردي، شعر الناس بأنهم مستثمرون في مهمّة إبادةٍ جماعية - قائلين يجب علينا قتلُهم جميعاً، حتى لا يكون هناك أبرياء، بما في ذلك النساء والأطفال. لقد كانت هذه لحظة قوية بحقّ.
يبدو أنّ دخولَ هذا العنف الجامح المستمر لفترة طويلة في إطار قانوني لحظةُ مصالحةٍ مع الإنسانية. فجأةً، أصبحتَ تتعامل مرة أخرى مع شعبٍ بشريٍّ له حقوق. ربّما لن تكون هذه هي النتيجة الفورية، لكنها تعني الكثير. ليس لدينا خيارٌ آخر. إذا كنّا لا نريد قانونَ الأقوى، فنحن بحاجة إلى القانون الدولي. لهذا السبب تم الدفاع ببراعة عن القضية الفلسطينية هذا الصباح، لأننا انطلقنا من حقائق مثبَتة وموثَّقة. لم يكن الأمر يتعلّق بخطابات أيديولوجيّة، وهو ما أعادَ تاريخ هذه اللّحظة ليس إلى السابع من أكتوبر، بل إلى البداية، إلى نهاية الحرب العالمية الثانية.
إنّ موقفي، وموقف «فرنسا الأبيّة»، هو عدم الانحياز. وهذا لا يعني الانسحاب إلى موقف مريح يتسم بتساوي المسافة أو الحياد. بل يتعلّق الأمر بالالتزام بالمبادئ التي تظلّ ثابتة، أيّاً كانت الجهات الفاعلة المعنية. لذا، يجب إدانة جميع جرائم الحرب. وكما قال أحد المحامين بقوّة شديدة في مرحلة ما: أيّاً كان السبب، وأيّاً كانت الاتهامات الموجَّهة إلى الجانب الآخر، وأيّاً كان الوضع، وسواء كنا في سلام أو في حالة حرب، فلا شيء يبرِّرُ الإبادةَ الجماعية.
إحدى الحجج الرائعة التي سمعتها في قاعة المحكمة كانت عن الأطباء الذين كتبوا على السبورة قبل مغادرة المستشفى: «لقد فعلنا ما في وسعنا. تذكّرونا». نعرف أين نقف ونعلم أنها مذبحة. ليست مجزرة «غير متناسبة»: هذه الكلمة بلا معنى. لأنّه لا توجد مذبحة متناسبة، ولا توجد إبادة جماعية متناسبة.
لذا، أعتقد أنّ الإدانة الأخلاقية الواردة في هذا الموقف لها قوّة حقيقية. أطلبُ مِن كلِّ مَن يشاركني قناعاتي والتزامي أنْ يشارك. شاركْ في المظاهرات، ووقِّعْ على العرائض، واتبعْ القادةَ التاريخيين لهذه الحركة. هناك أمثال صلاح حموري، الذين كانوا دائماً مناضلين في هذه القضية. الاستماع إلى كلّ ما يقولونه مهمّ، لأنه يساعدك على تكوين قناعاتك الخاصة وتثقيف نفسك.
نحن نعلم الآن أنّ هذه المحاكمة قد خرجتْ بالفعل بنتيجةٍ أولى، وذلك في التصريحات التي أدلى بها المتحدِّثون الرسميون «الإسرائيليون» والأمريكيون. حتى لو كنّا مؤمنين بكذبهم، فقد اضطرّوا إلى التوقّف عن قول الأشياء التي كانوا يقولونها بحريّة. لذا، أعتقد أنّ هذه هي النتيجة الأولى بالفعل. ولكن أبعد من ذلك، انعقدت جلسةُ المحكمة هذه. وهذا في حد ذاته انتصارٌ للإنسانية على قانون الأقوى.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1158