الفاشية الجديدة تثبت قدميها في ألمانيا بخطى متسارعة
بقلم: ماثيو د. روز بقلم: ماثيو د. روز

الفاشية الجديدة تثبت قدميها في ألمانيا بخطى متسارعة

في هذه الأيام، الحقيقة لا تعني الكثير في ألمانيا. إنّ كراهية روسيا والإسلاموفوبيا هي التي تملي الخطاب. سيزعم الألمان أن أيّ شخص يمكنه التعبير عن رأيه بحرية في ألمانيا. لكن في الحقيقة ليس عندما يعيشون في خوف من القيام بذلك، كما يعلم طلاب الفاشيّة جيداً. لم يتمّ أخذ حريّة التعبير بالحسبان بالنسبة لهداس فايس كمثال، وهي يهودية تمّ اعتقالها في برلين لحملها لافتة مؤيدة للفلسطينيين.

ترجمة: قاسيون

هناك شخصيتان تجسدان التطور الفاشي في المشهد الألماني أكثر من الجميع: وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين. قامت فون ديرلاين مؤخراً بدعوة وزيرة الدفاع الألمانية إلى إنشاء سلطة تابعة للاتحاد الأوروبي لتحفيز صناعة الدفاع الأوروبية - التي تتمتع حالياً بأرباح هائلة - لزيادة وتعزيز الإنتاج. يعني هذا إعادة توجيه الأموال من مجالات سياسية أخرى، كما كان الحال في وقت سابق من هذا الشهر، حيث وافقت دول الاتحاد الأوروبي على المساهمة بمبلغ جديد قدره 1.5 مليار يورو في صندوق الدفاع، جزئياً عن طريق خفض الإنفاق على الصحة والبحث العلمي.
أمّا سياسات بيربوك فنسخٌ كربونية من الولايات المتحدة. إنّها مولعة بإلقاء المحاضرات على زعماء العالم حول الأخلاق والديمقراطية. من خلال موقفها الأخلاقي، فهي تلعب دور الطبقة الوسطى في المدن الكبيرة. قد يقول ماكس فيبر: «إنّها ممارسة أخلاق الإقناع من على صهوة جواد بدلاً من أخلاق المسؤولية، وبدلاً من السياسة الواقعية».
ألمانيا ليست الدولة الوحيدة التي تدعم «إسرائيل» في محكمة العدل الدولية حالياً فحسب، بل هي ثاني أكبر مورّد للأسلحة إلى «إسرائيل» بعد الولايات المتحدة - وكذلك هي لأوكرانيا. قدمت ألمانيا مساعدات بقيمة 28 مليار يورو لأوكرانيا، بالإضافة إلى سبعة مليارات يورو أخرى في طور الإعداد هذا العام. إن تصرفاتها ليست فقط مستهجنة، بل إنها حمقاء من الناحية الجيوسياسية. ولن ننسى أبداً تلك اللحظات التي أعلن فيها الساسة الألمان، بقيادة بيربوك، أن بوتين «وليس روسيا» سوف يضطر إلى الركوع على ركبتيه، إن لم يتم اغتياله على يد شعبه، بعد فرض العقوبات. اليوم يزدهر الاقتصاد الروسي، بينما يتجه الاقتصاد الألماني إلى الركود. ثمّ هناك المهانة المتمثلة في قيام الولايات المتحدة بتفجير خط أنابيب نوردستريم في ألمانيا، والقائمة تطول.

حكومة ائتلاف «إشارة المرور»

لا يقتصر الأمر على السياسة الخارجية. تعدّ الحكومة الألمانية الحالية الحكومةَ الأقل شعبية في فترة ما بعد الحرب في البلاد. وقد وصلت حكومة ائتلاف «إشارة المرور» إلى السلطة بنسبة 52% من الأصوات [المقصود الحكومة الائتلافية بين الحزب الديمقراطي الاجتماعي SPD والديمقراطي الحر FDP وحزب الخضر، حيث ألوانها الأحمر والأصفر والأخضر على التوالي - المعرِّب]. حالياً تبلغ نسبة تأييدها حوالي 30٪. لا عجب في ذلك، فقد فشلت فشلاً ذريعاً. أصبح برنامجها المناخي الذي حظي بتغطية إعلامية كبيرة في حالة يرثى لها، مع محاولتها استخدام سياسات النيوليبرالية لتمويله. يخلِّف انعدام الشعبية الناتج عن ذلك عواقب وخيمة على ألمانيا والاتحاد الأوروبي. سيصبح هذا واضحاً في الانتخابات البرلمانية المقبلة للاتحاد الأوروبي. عادة ما يُنظر إلى هذه الانتخابات على أنها وسيلة للاحتجاج ضد الأحزاب القائمة، لأن معظم الألمان لا يهتمون بالاتحاد الأوروبي، كما أنهم لا يعرفون - مثل معظم الأوروبيين - ماذا يفعل. لهذا السبب يمكن أن يصل حزب البديل من أجل ألمانيا إلى 25%، وحزب BSW اليساري يقترب بالفعل من نسبة 10٪ في الاستطلاعات. بل وربما نجد أن الأحزاب السياسية الألمانية التقليدية لن تحصل حتى على 50% من الأصوات.
يمكن للمرء أن يفترض أن ما بين ربع وثلث السكان الألمان يحملون مشاعر يمينية متطرفة وأن هناك العديد من الانتهازيين ينتظرون في الأجنحة. إلا أنهم لا يشكلون التهديد الوحيد للنظام السياسي في ألمانيا. على الرغم من هذا الانقسام السياسي الذي يشبهه البعض بفترة فايمار، فإنني لم أشهد قط مجتمعاً ألمانياً موحداً إلى هذا الحد في دعم الفظائع المروعة التي ترتكبها «إسرائيل». وقد أشار مؤخراً عالم الأنثروبولوجيا غسان الحاج إلى أن هذه «ظاهرة رجعية»، فتمّ طرده من معهد ماكس بلانك الألماني بسبب ما اعتبره أحفاد هتلر تصريحات ومنشورات معادية للسامية. كتب الحاج مؤخراً على تويتر: «عندما تنقل هذا التأثير السياسي من فئة [يهوذا] إلى فئة [معاداة السامية]، وهي جولة تاريخية تكاد لا تصدق، فإنك لا تتعامل بشكل نقدي مع ماضيك الفاشي، بل تحافظ على أحد مكوناته العاطفية الرئيسية».

«اضربوا ألمانيا»

أصبح بعض «المثقفين» الألمان يشعرون بالتوتر، بعد أن لاحظوا أن قسماً كبيراً من العالم لا يشاركهم في تعصبهم. إن عزلتهم المتزايدة بسبب التطورات في محكمة العدل الدولية أمر مثير للقلق. «اضربوا ألمانيا» هي دعوة لمقاطعة المؤسسات الثقافية الألمانية بسبب دعمها للإبادة الجماعية التي ترتكبها «إسرائيل» في غزة والتمييز ضد الفنانين والمثقفين الفلسطينيين والمؤيدين لوقف إطلاق النار، وهذا تطوّر آخر غير مريح لهؤلاء الألمان الذين يريدون دائماً أن يظهروا بأنّهم الأفضل. مع ذلك، في مظاهرات السبت المنتظمة لدعم فلسطين في برلين، من بين ألفين أو ثلاثة آلاف مشارك، ربما يكون هناك مائة من ذوي البشرة البيضاء والعديد منهم لا يتحدثون الألمانية فيما بينهم. باختصار، هناك أغلبية ألمانية تقف خلف الإبادة الجماعية التي ترتكبها «إسرائيل»، أو تنظر بعيداً بخوف وتظلّ صامتة.
هناك عنصر آخر يسبب قدراً كبيراً من السخط في ألمانيا وهو أسلوب التعامل مع الاقتصاد من قِبَل الطبقة السياسية، والذي يمليه الالتزام القوي بالنيوليبرالية. وفقاً لمؤسسة الأبحاث DIW التي تحظى باحترام كبير، كلّفت الحرب في أوكرانيا البلاد بالفعل نحو 250 مليار يورو مع عواقب وخيمة على الاقتصاد. ألمانيا هي الاقتصاد الرئيسي الأسوأ أداءً في العالم. على الرغم من ذلك، تضفي وسائل الإعلام الألمانية الرئيسية لمسة جميلة على هذا الأمر، معلنة أن ألمانيا تعمل على تقليل استهلاكها للطاقة وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون. ليس هذا مفاجئاً، فالبلاد تمر بحالة ركود، كما أن جزءاً كبيراً من تراجع التصنيع يتم في الفروع التي تستخدم كميات كبيرة من الطاقة والنفط.

الاختيار بين الأكل والتدفئة

وقد أثّر الانخفاض الكبير في الدخل الحقيقي للفرد نتيجة لارتفاع أسعار الطاقة والغذاء على المجموعات ذات الدخل المنخفض بشكل خاص، حيث اضطرت إلى الاختيار بين الأكل والتدفئة. فضلاً عن ذلك فقد عانت العديد من هذه الفئات من التضخم الجشع الفظيع في ألمانيا، والذي كان خبيثاً بشكل خاص فيما يتصل بأسعار المواد الغذائية. فيما يتعلق بالإنتاجية والاستثمار، تستثمر العديد من الشركات الألمانية في الولايات المتحدة للاستفادة من الإعانات أو في دول ذات أسعار طاقة أرخص، ولكن ليس في ألمانيا.
كانت ألمانيا أيضاً المؤيد الرئيسي في الاتحاد الأوروبي لأسعار الفائدة المرتفعة، الأمر الذي أدى إلى مزيد من تثبيط الاستثمار. وفي الوقت نفسه، تتبع سياسة تقشفية متعنتة، الأمر الذي سيؤدي إلى مزيد من الكساد الاقتصادي، كما حدث في الماضي، مما يترك ألمانيا ببنية تحتية متهالكة، وتكاليف طاقة مرتفعة، وضعف الرقمنة، وتراجع الطلب المحلي، ناهيك عن انخفاض قياسي في أسعار العقارات السكنية والتجارية. لم يمضِ حتى عام منذ وعد المستشار الألماني أولاف شولتز الألمان بـ «معجزة اقتصادية» ثانية. لو حقق لهم ذلك ربّما كان بوسع الألمان أن يظلوا لطيفين مع كراهية روسيا والإسلاموفوبيا، و«الحرب الشاملة» في أوكرانيا، فضلاً عن الإبادة الجماعية «الإسرائيلية»، والتطهير العرقي، والفصل العنصري في غزة والضفة الغربية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1163