مِن الكَهْرَبَة الاشتراكية 1918 إلى ظلام الفساد الرأسمالي 2021

مِن الكَهْرَبَة الاشتراكية 1918 إلى ظلام الفساد الرأسمالي 2021

أطلق لينين في 22 كانون الأول 1920، شعاره الشهير «الشيوعية هي: السلطة السوفييتية + كَهرَبَة البلاد بأكملها». وبدأ تاريخ التخطيط الاقتصادي الاشتراكي فعلياً منذ تأسيس «لجنة كَهرَبَة روسيا» عام 1920 وقبل ولادة لجنة تخطيط الدولة (المعروفة بـ «غوسبلان» Gosplan) في شباط 1922. وتُفصِّل المادة التالية بأبرز محطات التطور اللاحق للكهرباء الاشتراكية في صعودها. أمّا لماذا نعتقد بأنّ إضاءةً كهذه مهمّةٌ اليوم؟ أحد الأسباب ببساطة: المفارقة المريرة التي تجعل إنساناً في القرن الحادي والعشرين– بسبب عيشه في منظومة رأسمالية شديدة الفساد كما في سورية– أنْ يُضطَرَّ لقراءة هذا المقال... على ضوء الشموع!!

إعداد: د. أسامة دليقان

اقترح لينين في منشوره «الخطوط العامة لخطة العمل العلمي والتقني» (نيسان 1918 وبعد 5 أشهر فقط من تأسيس السلطة السوفييتية) تنظيمَ لجانٍ للتخطيط لكَهرَبة الصناعة والنقل والزراعة، واستنباط موارد الوقود والطاقة المائية لمحطّات توليد الطاقة الكهربائية. وكتب رسالةً عام 1920 إلى مهندس الطاقة الشهير ج. م. قرغيزانوفسكي، مدافِعاً عن فكرة وضع خطّة للدولة لتزويد البلاد بالكهرباء، كمهمّة للبروليتاريا لجعل روسيا «كهربائية» خلال 10 إلى 20 سنة، تستند إلى العِلم و«تُلهِبَ حماسةَ جماهير العُمّال والفلّاحين الواعين».
ترأّس قرغيزانوفسكي «لجنة الدولة لكَهرَبَة روسيا» (GOELRO)، ومنذ نيسان وُضِعَ برنامجُ عمل تفصيلي، مع تسمية العلماء والمهندسين المسؤولين، بمشاركة أكثر من 180 عالِماً وتقنيّاً (فنّياً)، وصارت جاهزة في كانون الأول 1920 كأوّل خطّة اقتصادية سوفييتية.

لينين كعالِمٍ بالتخطيط الاقتصادي

تجسّدت الخطّة في المبادئ الثمانية التالية التي فَصّلها لينين:
1– إعادة تجهيز جميع قطّاعات الاقتصاد الوطني بمعدّاتٍ تقنية تستفيد من الطاقة الكهربائية. والتنمية السريعة لإنتاجية العمل المستندة لكَهرَبَة جميع عمليات الإنتاج والتحسين الشامل لظروف العمل.
2– أولوّية توسيع الصناعة الثقيلة كأساسٍ لتطوير كاملِ الاقتصاد الوطنيّ وقدرة البلاد الدفاعية.
3– تحقيق معدَّلٍ لنموّ موارد الطاقة يكون أسرع من مُعدَّل نموّ الإنتاج الصناعي، كوسيلةً لتطبيق الطاقة الكهربائية على نطاقٍ متزايد الاتساع دوماً لتلبية المتطلّبات الطاقيّة بأكمل صورة ممكنة، ولخلقِ مخزونٍ احتياطيّ من القدرة الكهربائية.
4– بناء محطّات طاقة حديثة كبيرة تُغذّي مناطق كاملة بالكهرباء، ويتمّ فيها تمركز ناتج الطاقة الكهربائية.
5– الاستفادة الموسَّعة من مصادر الوقود المحلّية في المناطق لصالح محطّات طاقة كهربائية كبيرة، بحيث لا تكون هذه المناطق أسيرةَ الاعتماد على الوقود عالي الجودة المنقول عبر مسافاتٍ طويلة، وكذلك لبناء مَرافِق الطاقة لتطوير الاقتصاد المحلّي في المناطق المفتقِرة لوقودٍ عالي الجّودة.
6– الاستفادة المُكثَّفة من الموارد المائية عَبر تشييد محطّات طاقة مائية كبيرة. وخلق موارد للطاقة الكهرومائية في المناطق ذات المخزون الشحيح من الوقود. وبناء منشآت مائية لتسهيل الاستفادة الشاملة من مواردها لحاجات هندسة الطاقة والنقل والرّي.
7– بناء خطوط التوتر العالي لنقل الكهرباء وربط محطّات طاقة عملاقة بواسطة شبكات التوتر العالي، مما يوحّد موارد الطاقة لإقليمٍ بأكمله، أو لعدّة أقاليم معاً، وعلى أساس ذلك يتمّ بناء شبكةِ طاقةٍ مُوحَّدة للبلد بأكمله.
8– التوزيع الرَّشيد (المُتناسِب) لمصادر الطاقة الكهربائية كوسيلةٍ مهمّة لتوزيعٍ مُتَوازِن للقوى المُنتِجة على طول البلاد وعرضها. وتوسيع مصادر الطاقة الموجودة سلفاً في الأقاليم الصناعية القديمة بحيث يُرافقها تشييد محطّات طاقة كهربائية على أطراف البلد، في المناطق غير الروسيّة التي كانت مُتخلِّفة سابقاً، وتأسيس مواقع جديدة للصناعة.
بعد عرض المبادئ الثمانية أعلاه، يُسجّل الباحث الأمريكي ديفيد كروم [انظر المصادر أدناه] الملاحظة المهمّة التالية: «قد تختلف أولويّات البرامج عبر الزمن، لكنّ مراجعةً لخطط الدولة للتطوير الاقتصادي تشير إلى أنّ هذه المبادئ العامة [التي صاغها لينين] شكّلت نموذجاً للكَهرَبة، بحيث أنّ مبادئ مشابهةً ربّما تُشكّلُ أساساً للكَهرَبة في مُعظم الأمم». كما يلاحظ كروم أيضاً الأهمية الاجتماعية والسياسية لنجاح تطبيق خطة الدولة الاقتصادية وإيفائها بوعودها للشعب مما يمنحها الشرعية والدعم، حيث إنّ التنفيذ خلال 10 إلى 15 سنة الأولى لم يؤدِّ فقط إلى النجاح بإنشاء 30 محطّة توليد، بل وبقدرة إضافية فاقت مليوناً و750 ألف كيلو واط.

الخطّتان الخمسيّتان الأولى والثانية

بعد وفاة لينين، وَضعتْ لجنة تخطيط الدولة، بقيادة ستالين، الخطةَ الخمسية الأولى (1928–1932)، ولعلّ أبرز ما ميّز التخطيط الكهربائي فيها الأمور التالية: الاهتمام القوي بإنشاء محطات توليد في الأقاليم بحيث تكون عالية القدرة لخدمة جميع الأنشطة ضمن منطقةٍ واسعة المساحة– اختيار أماكن بناء المحطات بأقرب ما يكون إلى مصادر تزويدها بالوقود– تشغيل الكثير من المحطات في الأقاليم على الطاقة المائية والوقود المحلّي فيها (ما أدّى للتوفير والتقليل من مساهمة تكاليف نقل الوقود كجزء من التكلفة الإجمالية لتوليد الكيلو واط الساعي الواحد).
ونجحت الأولى بزيادة محطّات التوليد في المقاطعات من 18 إلى 43 محطة مع نسبة إنجاز 82% من القدرة المخطَّطة بالمقاطعات (حوالي 2,6 مليون كيلو واط من أصل 3,2 مليون المخطَّطة). أمّا الإنجاز الإجمالي فكان 84% من المخطَّط (بزيادة القدرة من مليون و905 ألف كليو واط إلى 4 ملايين و677 ألف كيلو واط)، وارتفع الإنتاج بالكيلو واط الساعي من 5 مليار بدايةَ الخطة (1928) إلى 13,5 مليار بنهايتها (1932).
وتميّزت الثانية (1933–1937) بتوسيع القدرة الإجمالية إلى 8,2 مليون كيلو واط (75% من المخطَّط) مع زيادة الناتج إلى 36,2 مليار كيلو واط ساعي (95% من المُخطَّط).

نموذجٌ لاقتصادٍ مُقاوِمٍ = غير فاسد

جاء غزو النازية الألمانية للبلد الاشتراكي ليقطع عام 1941 إتمامَ برنامج الكَهرَبة للخطة الخمسية الثالثة (1938–1942) بعد أنْ تبنّاها المؤتمر 18 للحزب الشيوعي السوفييتي عام 1939 بهدف تزويد جميع الأقاليم والمناطق بقاعدةٍ طاقية لتطوير قوى الإنتاج وزيادة توليدها من الوقود المحلّي والموارد المائية وتأمين مخزونات الاحتياط الضرورية لضمان عدم انقطاع الخدمة. فاضطرّت البلاد لتحويل قواها إلى العمليات العسكرية ونقل الصناعات إلى شرقي البلاد لحمايتها. ودمّر الفاشيّون خلال ثلاث سنوات (من 1941 إلى 1944) كثيراً من المحطّات (بينها 62 كهرومائية تكافئ مليون كيلو واط)، ونحو 10 آلاف كيلو متر من خطوط التوتر العالي، بخسائر تجاوزت 5 مليون كيلو واط من القدرة. أمّا المعدّات التي فكّكها ونهبها ونقلها الجيش النازي إلى ألمانيا، فقدّرَتْها المصادر السوفييتية بنحو 14 ألف مِرجَل، و11 ألف مُولِّدة، و1400 عَنَفَة (توربين).
ولكن، رغم كلّ الحرب والدمار استطاع الشعب السوفييتي ونظامُه الاشتراكي الصمود. وأورد البروفسور كروم جدول بيانات، قمنا بتحليله، فتبيّن بأنّ فترة الحرب وعواقبها (بين 1940 و1945) كانت المرحلة الوحيدة في التاريخ السوفييتي (ضمن الفترة التي درسها كروم حتى 1970) التي سجّلت انخفاضاً (نموّاً سالباً) بالقدرة الكهربائية (من 11,2 إلى 11,1 مليون كيلو واط)، وما يكافئها من انخفاض بالإنتاج مقدراً بالكيلو واط الساعيّ (من 48,3 مليار إلى 43,3 مليار)، وهذا يعني تراجعاً كهربائياً لكل فترة الحرب لم يتجاوز 0,9% بالقدرة ولم يتجاوز 10,35% بالإنتاج، أما بحسابنا معدّل النموّ السنوي لكلا المؤشّرين خلال الفترة المذكورة فوجدناهما (سالب 0,18% سنوياً) و (سالب 2% سنوياً) فقط على التوالي! وبحساب مماثل للفترة (1937–1940) التي سبقت الحرب، وجدنا النمو السنوي للمؤشّرين (موجب 12,2% سنوياً) و(موجب 11,14% سنوياً). والأرقام الأكثر إثارة للإعجاب هي نسب النمو السنوي بفترة إعادة الإعمار الاشتراكي السريعة التالية للحرب واستكمال البناء الاشتراكي اللاحق: نما المؤشر الأول (القدرة بالكيلو واط) بالمعدّلات السنوية التالية: (موجب 15,3% سنوياً للفترة 1945–1950) ثمّ (موجب 18% للفترة 1950–1955) ثمّ (موجب 14,57% للفترة 1955–1958). أما المؤشر الثاني (الإنتاج بالكيلو واط الساعيّ) فقد نما بالمعدّلات السنوية التالية: (موجب 22,12% للفترة 1945–1950) ثم (موجب 17,32% للفترة 1950–1955) ثم (موجب 12,77% للفترة 1955–1958).
وانتهت الخطة الخمسية الخامسة عام 1955 بوصول الإنتاج إلى 170,2 مليار كيلو واط ساعيّ وبنسبة تنفيذ أكثر من كاملة: 103,7%، فضلاً عن قفزتين نوعيّتين: تفوّقتْ لأوّل مرة مساهمةُ المنشآت الكهرومائية على المحطات الحرارية، وافتتح السوفييت أوّل محطة طاقة ذرية في العالم (حزيران 1954).

  • المصادر:
    1– البروفسور الأمريكي David E. Kromm، «التخطيط السوفييتي لزيادات الطاقة الكهربائية إنتاجاً وقدرةً»، خريف 1970، مجلة «مداولات أكاديمية كانساس للعلوم»، المجلد73، العدد3.
    2– فلاديمير لينين، «تقرير عن عمل مجلس مفوّضيات الشعب» 22 كانون الأول 1920.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1031
آخر تعديل على الإثنين, 16 آب/أغسطس 2021 23:24