لم يعد «2254» أداة لتجاوز الأزمة فحسب بل وبات أحد شرطي إنجاز «الاستقلال الجديد»
ريم عيسى- سعد صائب ريم عيسى- سعد صائب

لم يعد «2254» أداة لتجاوز الأزمة فحسب بل وبات أحد شرطي إنجاز «الاستقلال الجديد»

في 17 نيسان من كل عام نحتفل بذكرى يوم الجلاء الذي شهد خروج آخر جنود الاحتلال الفرنسي من وطننا. جاء ذلك نتيجة عقود من القتال والنضال والتضحية من قبل أجدادنا، وخلفهم الوطنيون السوريون الذين رفضوا العيش تحت الاحتلال. كما أنه ليس من قبيل المصادفة أن نهاية الاحتلال جاءت عند نقطة تحول في التاريخ، حيث حلّ ميزان دولي جديد محل ميزان قديم...

اليوم، سورية والسوريون على مفترق طرق تاريخي مرة أخرى، وعلى المحك وحدة أراضي سورية ووحدة شعبها. في حين أن بعض التفاصيل قد تختلف، إلّا أن هناك العديد من أوجه التشابه، وبالتأكيد، الهدف في جوهرها واحد: إخراج سورية والسوريين من هذه الأزمة بأمان وموحدين...

سورية عام 1946: عدسة عالمية

بالنظر إلى استقلال سورية تماماً عن فرنسا عام 1946، ولكن من منظور جغرافي وزمني أوسع، يمكننا الحصول على قراءة أفضل للظروف التي أدت إلى تلك اللحظة في تاريخ سورية. جاء جلاء 17 نيسان 1946 لآخر القوات الفرنسية بمثابة تتويج لنضال استمر طوال فترة وجود الاستعمار الفرنسي/ البريطاني، وهذا يُعيدنا إلى الحرب العالمية الأولى ونتائجها، وبخاصة جملة الثورات التي اندلعت في حينه في أجزاء مختلفة من العالم وكانت أبرزها ثورة أكتوبر، التي ظهر بعدها الاتحاد السوفييتي بشكل تدريجي كقوة عالمية عظمى اكتسبت هذه الصفة بشكل قطعي خلال الحرب العالمية الثانية...
في ذلك الوقت، أصبح من الواضح أن التوازن الدولي الذي كان قائماً، يتعرض للتحدي، وأن توازناً جديداً سوف يتشكل حتماً ليحل محله. كانت نقطة التغيير تلك، إذا أردنا اختيار واحدة، هي الحرب العالمية الثانية، وبعد ذلك توزّع العالم فعلياً إلى ثلاث مجموعات من البلدان:
- المجموعة الأولى: المعسكر الاشتراكي/ الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفييتي
- المجموعة الثانية: الرأسمالية/ المعسكر الاستعماري بقيادة الولايات المتحدة وبدرجة أقل بريطانيا وفرنسا.
- المجموعة الثالثة: بقية بلدان العالم، والتي كانت في معظمها تحت سيطرة أو احتلال المجموعة الثانية.
أصبحت المجموعة الثالثة عاملاً حاسماً في الصراع بين المجموعة الأولى والمجموعة الثانية؛ حيث ضمت المجموعة الثالثة العديد من البلدان التي كانت إما تحت سيطرة إحدى دول المجموعة الثانية أو مستعمرة لها. كان هذا هو الحال بالنسبة لسورية. وهكذا تجلّت إحدى المعارك بين المجموعتين الأولى والثانية، في أنّ المجموعة الأولى، وبالملموس الاتحاد السوفييتي، قد عملت على دعم استقلال دول المجموعة الثالثة وإخراجها من تحت سيطرة المجموعة الثانية، التي كانت تسعى بدورها (أي المجموعة الغربية) إلى تكريس وإبقاء احتلالها ونهبها لثروات الدول المستعمَرة...
لعب الاتحاد السوفييتي دوراً كبيراً في استقلال العديد من البلدان، وقدم دعماً كبيراً لهذه الغاية بمختلف السبل والأدوات الاقتصادية والعسكرية وكذلك القانونية السياسية كما في المنتديات الدولية، مثل: الأمم المتحدة. ومع ذلك، هذا لا يعني أن شعوب دول المجموعة الثالثة لم يكن لها دور في أي من هذا. على العكس من ذلك، فإن العديد من هذه الدول، كما أشرنا أعلاه فيما يتعلق بسورية، كانت تشهد بالفعل نوعاً من الحركة الوطنية الواسعة أو حتى الثورة، والتي عندما اقترنت بالتوازن الدولي الجديد نتج عنها استقلالها عن مستعمريها.

استقلال سورية

إذا عدنا إلى سورية، مع ظهور التوازن الدولي الجديد بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد نضال استمر منذ لحظة وطِئ المحتل الأوروبي أرض سورية وحتى لحظة خروجه، وبسبب هذا النضال بالذات، النضال العنيد والصلب والمتفاني، فقد كانت سورية مرشحاً رئيسياً لنيل استقلالها قبل أية دولة أخرى، وهو ما حدث فعلاً...
تم وضع سورية تحت الانتداب الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى، والتي استخدمت أدوات الاستعمار التقليدية المتمثلة في وجود جنود على الأرض للسيطرة المباشرة على جميع الجوانب- عسكرياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وسياسياً، إلخ. وبين الأدوات الأخرى التي استخدمها الفرنسيون والبريطانيون لإضعاف الدولة والشعب، هي محاولة تقسيم البلاد إلى عدة ولايات، ومحاولة تكريس انقسامات طائفية وقومية بين أبناء البلد الواحد والتاريخ الواحد. القمع والنهب تم تنفيذهما مباشرة من قبل قوات الاحتلال، وبالتالي، فإن الاستقلال كان يعني طرد الاحتلال والسيطرة على جميع جوانب الحياة في البلاد. وقد تطلب ذلك إرادة وتصميماً من قبل السوريين للحفاظ على وحدة أراضي سورية وقطع العلاقات مع الاحتلال، الأمر الذي يفي بالمعيار المهم لإرادة الشعب.
بالإضافة إلى ذلك، ضمن إحداثيات التوازن العالمي الجديد، تطلب ذلك دعم المعسكر الاشتراكي/ الشيوعي الذي كان يقف في وجه المجموعة الثانية- أي: المعسكر الإمبريالي/ الرأسمالي، الذي سعى إلى الاستمرار في السيطرة على البلدان من المجموعة الثالثة من أجل التغذية المستمرة لآلة النهب الغربية، وفي إطار التنافس على السيطرة العالمية مع المعسكر الاشتراكي.
على الضفة الأخرى، أراد المعسكر الاشتراكي/ الشيوعي تقليص حجم المجموعة الثالثة وقلب الميزان لصالحه أكثر، وهو ما يمكنه تحقيقه من خلال مساعدة البلدان على أن تصبح مستقلة ومنفصلة عن البلدان الإمبريالية/ الرأسمالية. كان هذا هو المعيار الثاني المهم لتوازن عالمي جديد.
لم تكن سورية مجرد مثال على توافر الشرطين أو المعيارين السابقين معاً، وحسب، بل وكانت نموذجاً مثالياً على ذلك؛ حيث كانت أُولى الدول التي حصلت على الاستقلال عن القوى الإمبريالية القديمة، والأهم من ذلك، دون السماح للمحتل بالاحتفاظ بأية امتيازات في سورية. لقد كان استقلالاً حقيقياً وانفصالاً عن المحتل القديم، اتبعه السوريون أنفسهم للسيطرة على بلدهم والتغلب على كل الظروف التي أوجدتها فرنسا لإضعاف سورية والسوريين.
ومن المثير للاهتمام، أن أول فيتو تم استخدامه في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، كان من قبل الاتحاد السوفييتي على قرار يتعلق بإجلاء القوات البريطانية- الفرنسية من سورية ولبنان. نوقش هذا الأمر خلال اجتماعات مجلس الأمن في 14-16 شباط 1946. استند الفيتو السوفييتي إلى رفض جعل الجلاء المذكور خاضعاً للمفاوضات، ثم صرح الممثل السوفييتي، فيشينسكي، أنه إذا كانت «المفاوضات بشأن ما إذا كان ينبغي للقوات الأنجلو- فرنسية أن تنسحب من سورية ولبنان أم لا، فإن مثل هذا القرار غير مقبول على الإطلاق». وبذلك يتضح أن انسحاب القوات من سورية ولبنان يجب أن يحدث ولا يمكن أن يكون مشروطاً بأي شيء. وأضاف: «إن مجلس الأمن غير موجود حفاظاً على راحة بال كل عضو من أعضاء المجلس. إنه موجود من أجل حماية الحقوق السيادية لجميع الأمم المتحدة، ولحماية سيادتها من التعدي من أي نوع ومن أي مصدر، ولحماية سلام وأمن الشعوب».

1014-1-5

سورية والعالم اليوم

يمر العالم اليوم بشيء مشابه لما كان يحدث بُعَيد الحرب العالمية الثانية، على الأقل بمعنى أن التوازن العالمي أحادي القطبية يعيش حالة انهيار، ويتشكل بالمقابل توازن دولي جديد.
في الجوهر، فإنّ هنالك بعض أوجه التشابه في عملية الانتقال من التوازن القديم إلى الجديد، والذي مرة أخرى، تكون فيه دول «العالم الثالث»، محوراً أساسياً من محاور الصراع، بين منظومة دولية تسعى إلى إخضاعه وتحويله إلى مطرح نهبٍ لها، وبين منظومة ترى في استقلاله ضرورة لحمايته وحماية نفسها من عملية النهب الغربي التاريخي.
المشكلة الكبرى، هي أنّ إنهاء الاستعمار بشكله القديم دون استكمال المعركة حتى النهاية ضد الرأسمالية نفسها كمنظومة عالمية، وتحديداً ما بعد ستالين (أي: سياسة «التعايش السلمي» وإلخ)، قد سمحت للغرب بالانتقال من الاستعمار التقليدي المباشر إلى بناء منظومة الاستعمار الجديد الاقتصادي، التي رست أسسها في أواسط الستينات تقريباً...
أدوات ذلك الاستعمار كانت اقتصادية بالدرجة الأولى (مقص الأسعار، القروض، هجرة العقول، التبعية التكنولوجية)، وبالتأكيد كان ذلك يحتاج إلى استكمال سياسي بحيث يجري تحويل أنظمة دول العالم الثالث «المستقلة حديثاً» إلى وكلاء للغرب، يمارسون نهباً مزدوجاً، لمصلحتهم كأنظمة ولمصلحة الغرب... الأمر الذي يتطلب بلا شك، ومع مرور الزمن، تطور الأدوات القمعية لإسكات الشعوب عن عملية النهب الوحشي التي تتعرض لها...
استقلت سورية عن الفرنسي عام 1946، وأصبحت بذلك مستقلة «سياسياً»، ولكن هذا الاستقلال لم يُستكمل بجوانبه الأخرى، الاقتصادية والثقافية والقانونية وإلخ... يضاف إلى ذلك أن سورية تعيش اليوم أزمة يتمثل أحد جوانبها الرئيسية في تقسيم الأمر الواقع (والذي يشبه حالتها قبل الاستقلال) والذي يحاول الغرب عبره إضافة إلى كل الأدوات الأخرى، منع سورية والسوريين من الخروج من هذه الأزمة بأمان وموحدة.

مهمتنا

ظروف اليوم أكثر تعقيداً مما كانت عليه قبل 75 عاماً، مما يجعل المهمة التي نحاول تحقيقها أكثر تعقيداً من تلك التي حققها أجدادنا. لم يكن كفاحهم سهلاً بأي مقياس، حيث كان عليهم أن يخوضوا غمار نضال عاثر مصطخب، لطرد المحتل وجعل السوريين يسيطرون على بلدهم. ولكن مهمة اليوم هي الاستقلال سياسياً، ولكن أيضاً اقتصادياً.
قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، هو التعبير القانوني الدولي عن الشرط الأول الخارجي (من بين الشرطين الذين ذكرناهما أعلاه لتحقيق الاستقلال)، وهو يشبه إلى حد بعيد الفيتو الأول في مجلس الأمن الدولي، الذي ليس مصادفة أنه كان يخص سورية بالذات، وكان على يد الاتحاد السوفييتي بالذات دفاعاً عن استقلال غير مشروط لسورية، وعن جلاء القوات المحتلة دون قيد أو شرط.
وهذا جانب في القرار 2254، أي: المتعلق بالحفاظ على وحدة سورية وسيادتها واستقلالها، ولكن الجانب الآخر فيه أيضاً هو حق الشعب السوري في تقرير مصيره بنفسه، والذي لم يعد باباً لحل الأزمة فحسب، بل باباً وأداة للدفاع عن وحدة سورية وبقائها، لأنّ الحفاظ على سورية بات يتطلب استعادة الشعب السوري للسلطة على بلاده، وفي كل المجالات، وبينها بالتأكيد، وعلى قدم المساواة مع الحقوق الديمقراطية والوطنية، مسألة توزيع عادل للثروة، بحيث تصب في يد المنتجين الحقيقيين، أي: عامة الشعب السوري...
مهمتنا، هي مواصلة النضال الذي بدأه أجدادنا منذ أكثر من قرن من الزمان، ونالت سورية استقلالها بموجبه قبل 75 سنة. يجب علينا الآن تحقيق الاستقلال عن المستعمر الجديد سياسياً واقتصادياً، ولا يتحقق ذلك دون إنهاء آليات النهب ووكلاء النهب الداخليين... وبكلمة، لن يتحقق بمجرد إنهاء سطوة الخارج ووضع «السوريين» يدهم على السلطة في سورية، بل ينبغي للمنظومة السورية الجديدة التي ستضع يدها على السلطة أن تكون ممثلاً حقيقياً للغالبية الساحقة المسحوقة من السوريين... لا ممثلاً لقلة اقتصادية ناهبة...

(النسخة الانكليزية)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1014
آخر تعديل على الإثنين, 19 نيسان/أبريل 2021 12:34