تبسيطٌ وتعقيد و«ديمقراطية»

تبسيطٌ وتعقيد و«ديمقراطية»

جرت العادة على استخدام تبسيطات مجازية بهدف عرض أو مناقشة الصراعات الدولية؛ من قبيل تشبيهها بـ«لعبة ورق» أو بـ«رقعة شطرنج كبرى»: على الرقعة، يمكن التضحية بفيلٍ لحماية وزير، أو يمكن التضحية بالوزير نفسه لحماية الملك، أو للإيقاع بملك الخصم، وكذلك يمكن أن تتحول وظيفة إحدى القلاع في النهايات إلى مجرد حامٍ لجنديٍ يحثّ الخطى نحو الترقي وزيراً... وإلخ.

كي لا يبقى الكلام عائماً، نقول مثلاً: ليس نادراً أن نسمع تحليلاً من النمط التالي: سورية هي ورقة بيد روسيا يمكن أن تلقيها ضمن صفقة تضمن فيها وضع أوكرانيا. الولايات المتحدة غير مهتمة بالشرق الأوسط، ولكنها تطيل وجودها هناك بانتظار الحصول على ثمن مناسب من روسيا والصين للخروج... وهكذا.
لا يمكننا أن ننكر أنّ هذا النوع من التشبيهات مُغرٍ حقاً، وقد يكون مفيداً أحياناً أثناء عرض قضية من القضايا أمام المستمع أو القارئ عبر تبسيطها، وبالتالي، تسهيل تناولها... ولكن المشكلة هي تحويل هذا النوع من التشبيه من أداة في العرض إلى أداة في التحليل!

تعقيد في التحليل، تبسيط في العرض

القاعدة المستخدمة في شتى العلوم هي: أنّ عملية التحليل ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار أكبر قدرٍ ممكن من المتغيرات المؤثرة في الموضوع المدروس، وأنْ تدرس تلك المتغيرات في السكون والحركة، فُرادى ومثنى وثلاث ورباع وإلخ. وبعد أنْ يتم اكتشاف القانون الحاكم للعلاقة بين هذه المتغيرات، وبعد التثبت من صحته بالتجربة، عندها فقط يصبح من الممكن الانتقال إلى مرحلة عرض النتيجة.
وفي مرحلة عرض النتيجة- ما دام البرهان الرصين بالمعنى العلمي موجوداً تحت اليد- يمكن العمل على تبسيط العرض إلى الحدود القصوى لتسهيل الفهم؛ بما في ذلك استخدام التشبيهات المجازية؛ مثلاً: يمكن وصف عنصر الآرغون بأنه «عنصر خامل»، وذلك للتعبير عن انخفاض نشاطه الكيميائي نتيجة استقراره الطاقي الناجم عن التوزع الإلكتروني ضمن ذرته، وهذا ناجم بدوره عن الصفة الكمية التي تميزه نوعياً عن أي عنصر آخر في الطبيعة، وهي عدد البروتونات ضمن نواته، وعن التجاذب الكهربائي بين البروتونات والإلكترونات، والتنافر الميكانيكي الناجم عن القوة النابذة الدورانية للإلكترونات خلال دورانها حول النواة ضمن مدارات طاقية ذات توزع فراغي معين، وإلخ وإلخ (وليس لهذا الأمر آخِر بالمناسبة، لأنّه لا يمكن الوصول إلى تفسير نهائي وكامل لأي شيء، مع أنه يمكن الوصول إلى تفسير مطلق ونسبي... وتلك مسألة أخرى)...
ما نرمي إليه من هذا المثال، هو أنه من الممكن بطبيعة الحال تبسيط أية قضية (بعد فهمها بشكل عميق)، ولكن العكس غير ممكن؛ لا يمكنك فهم الطبيعة الكيميائية للآرغون أو النيون أو غيره انطلاقاً من مجرد وصفه بأنه «عنصر خامل».
كذلك الأمر، بمعنى من المعاني، في فهم الصراعات السياسية؛ يمكنك دائماً أن تستخدم تبسيطات من نوع رقعة الشطرنج، وألعاب الورق، وحتى ألعاب الكشاتبين لتعرض أو توضح فهمك للأمور، لكن العكس غير ممكن. لا يمكنك تحليل الوضع الدولي انطلاقاً من تبسيطات من نمط لعبة الشطرنج.

التبسيط والتعقيد و«الديمقراطية»

فلنأخذ المثل التبسيطي التالي: إذا مرض أحدنا وذهب إلى الطبيب، فإنّه في أغلب الأحوال سيلتزم بما يقوله له الطبيب ويشتري الدواء الذي يصفه له. والمريض منا لن يسمع نصيحة جاره المهندس/ البقال/ المعلم... بأن يضاعف جرعة الدواء أو أن يغيّره، بل والجار هذا سيلام على جرأته في التعدي على كارٍ ليس كاره... الأمر ليس كذلك إطلاقاً في «الشؤون العامة»، والسياسية خاصة.
ديمقراطية صناديق الاقتراع، أو ديمقراطية الدولة التمثيلية، (والتي شكّلت بكل تأكيد خطوة إلى الأمام ضمن التطور التاريخي للبشرية)، لها مشكلاتها العديدة أيضاً، وعلى رأسها: أن تلك الديمقراطية ضمن مجتمع طبقي تكون دائماً الوجه الآخر لديكتاتورية الطبقة المسيطرة ضد بقية المجتمع...
بين المشكلات المتعلقة بموضوع نقاشنا هنا، الوهم الذي تخلقه الديمقراطية: وهم التساوي بين جميع البشر في الشأن السياسي. ديمقراطية صندوق الاقتراع تتمركز حول فكرة أنّ كل المواطنين يساهمون في العملية السياسية لبلادهم بشكلٍ متساوٍ تماماً: لكل فرد صوت واحد (رأي واحد)، وبالمحصلة فإنّ الأكثرية هي من تقرر... ويبدو ذلك عادلاً جداً.
ولكن هل يمكن أن يقبل أيّ منا، إذا كان مريضاً، أن نختار له بشكل عشوائي ألف شخص مثلاً، ونطلب منهم أن يصوتوا على نوعية العلاج الذي ينبغي أن يخضع له؟ وبعد التصويت فإنّه يجب أن يخضع لرأي الأكثرية أيّاً يكن رأيها.
فلنضف للمثال البسيط السابق عنصراً جديداً هو التالي: المحطات الإعلامية الكبرى مملوكة من قبل قلة قليلة هي ذاتها التي تملك شركة دواء تصنع دواءً اسمه (س). في نشرات الأخبار وفي البرامج الصباحية تمر إعلانات (س)، وكذلك فإنّ ضيوفاً عديدين، كلهم أطباء، قد استضافتهم هذه المحطات وقالوا آراءً إيجابية في الدواء (س).
إذا كان ضمن العينة «العشوائية» المكونة من ألف شخص، والتي ستقرر مصير المريض، 900 شخص مثلاً يتابعون المحطات التي يملكها مالكو الدواء (س)، هل يمكن القول: إنّ (صوتهم/ رأيهم) سيكون رأياً حيادياً؟؟
الأمر كذلك أيضاً حين يكون النقاش هو حول مسألة سياسية؛ فطريقة العرض التبسيطي، بل وتعليم الناس على استخدام آليات تبسيطية في التحليل، آليات تبسيطية لدرجة سخيفة ومضحكة باعتبارها آليات تحليل حقيقية، هو جزء من نشر «الخمول» والكسل العقلي الاختزالي، والذي يصب في نهاية المطاف، في تحويل الآراء «الحرة» للناس إلى آراء مصنعة مسبقاً، ومضمونة النتائج...
السياسة مثل غيرها من القضايا شديدة التعقيد في الحياة، فكي يتمكن المرء من الاقتراب من الحقيقة، فهو بحاجة إلى فهم عميق لعدد هائل من العلوم، من الفلسفة إلى الاقتصاد إلى الاجتماع إلى الجغرافية والتاريخ وعلم النفس وغيرها... ولذا فإنّ تجهيل أكبر عدد ممكن من الناس وتسطيح وتبسيط عقولهم هو أحد أدوات العمل السياسي «الديمقراطي» الذي يصب في مصلحة الطبقات الناهبة والحاكمة. وعلى العكس فإنّ رفع سوية وعي أكبر عدد ممكن من الناس هو أحد أدوات العمل الديمقراطي والثوري الذي يصب في مصلحة الطبقات المنهوبة...
«التبسيط في التحليل» هو استغباء للناس واستعباد لهم باسم الحرية وباسم صندوق الاقتراع... التعقيد في التحليل والتبسيط في العرض هو الطريق الوحيد لاحترام عقول الناس ومصالحها، ولتمكينها من استخدام الأدوات السياسية المختلفة بما فيها الديمقراطية لتخديم مصلحتها...

النسخة الإنكليزية

معلومات إضافية

العدد رقم:
1015
آخر تعديل على الثلاثاء, 27 نيسان/أبريل 2021 20:42