عن الوحدة الوطنية... وكيف نقف في وجه التتريك؟
سعد صائب سعد صائب

عن الوحدة الوطنية... وكيف نقف في وجه التتريك؟

(ما ينبغي إيلاؤه اهتماماً كبيراً، ليس فقط النضال المطلوب ضد تقسيم الأمر الواقع القائم حالياً ضمن الإحداثيات الجغرافية، ومحاولات الغرب والصهاينة تكريسه، والمساعدات التي يتلقاها مخطط التقسيم هذا من المتشددين من الأطراف السورية، بل وأيضاً ينبغي العمل ضد الإحداثي البشري لعملية التقسيم، والذي يقسّم السوريين ملايين مقابل ملايين، بين «جيدين» و«سيئين»، «وطنيين» و«خونة»)- افتتاحية قاسيون العدد 1020 بتاريخ 31/أيار/2021.

بدأ العدوان التركي المباشر على الأرض السورية في آب من العام 2016 مع العملية التي أسمتها تركيا بـ«درع الفرات»؛ ونقول العدوان المباشر، لأنّ العدوان بأشكاله غير المباشرة كان قد بدأ قبل ذلك بسنوات.
انتهت عملية «درع الفرات» إلى سيطرة الأتراك على مناطق من الشمال السوري بات يشار إليها بهذا الاسم، أي: مناطق درع الفرات (وهي جرابلس وأعزاز والباب في ريفي حلب الشمالي والشرقي)، تمييزاً لها عن المناطق التي احتلها الأتراك خلال العمليتين العسكريتين التاليتين عامي 2018 و2019، أي: مناطق عدوان «غصن الزيتون» (عفرين ومحيطها)، وعدوان «نبع السلام» (شريط حدودي شرق الفرات يضم رأس العين وتل أبيض وغيرها).
يضاف إلى ذلك وجود تأثير تركي إلى هذا الحد أو ذاك في المناطق التي تسيطر عليها بشكل رسمي جبهة النصرة، بالإضافة إلى بضعة جيوب صغيرة لحراس الدين والتركستاني وغيرهما. وبقدر أهمية الوقائع السابقة، هنالك أيضاً حقيقة أن كل التقديرات تتفق على أن الحد الأدنى لعدد اللاجئين السوريين في تركيا يتجاوز ثلاثة ملايين لاجئ.

مخاطر إضافية

عدا عن الاحتلال العسكري المباشر، أو عبر بعض الفصائل التي باتت تعمل بشكل مباشر تحت الإمرة التركية، فإنّ هنالك سلسلة من الإجراءات والممارسات الخطيرة التي جرى تكريسها خلالها السنتين الماضيتين.
ضمن هذه الإجراءات موضوع استخدام الليرة التركية في التبادل بدلاً عن السورية، وحضور العلم التركي وصور الرئيس التركي وغيرها من الرموز الخاصة بتركيا في كل مكان وفي كل تفصيل. وربما أخطر من ذلك كلّه، تعليم آلاف وآلاف الأطفال اللغة التركية وربطهم ثقافياً وروحياً مع تركيا بوصفها (البلد الأم).
وإذا كانت اليد التركية هي الأساسية في هذه العملية، وباستخدام بعض السوريين وخاصة ضمن المتشددين في المعارضة، والذين بات قسم منهم تجار حرب ومعابر وحواجز بشكل مباشر، فإنّ هنالك ما يعزز من هذه العملية (أي: التتريك)، وهو تقاطعها مع العمل الأمريكي العام اتجاه سورية، والذي سبق أن تناولناه في عدد كبير من المقالات، ويتمحور حول تثبيت تقسيم الأمر الواقع وإطالة أمده وتكريس المستنقع.
ونقول: إنّ هنالك تقاطعاً وليس تطابقاً بين الأمريكي والتركي في هذه المسألة، لأنّ الهدف الأمثل بالنسبة للأمريكي هو إيصال تقسيم الأمر الواقع إلى تقسيم فعلي ونهائي وإلى تفتيت، بينما تتعارض هذه النهاية مع مصلحة الأمن القومي لتركيا، لأنّ عملية تفتيت لسورية بتعقيد وتداخل التركيبة السكانية والديمغرافية والسياسية بينها وبين كل دول المنطقة بما فيها تركيا، سيكون لها تأثير صاعق انفجار لسلسلة دومينو تفتيتية في مجمل المنطقة، وفي تركيا خصوصاً.

وأين التقاطع إذاً؟

الأمر ببساطة، هو أنّ الأتراك يعلمون جيداً أنّ كل يوم إضافي يمر دون حلٍ للأزمة السورية، هو يوم إضافي في تكريس علاقة بينهم وبين ما يقرب من 7 ملايين سوري، (هم اللاجئون على أراضيها بالإضافة إلى من تحتل أرضهم بشكل مباشر عبر عملياتها العسكرية الثلاث، أو تؤثر فيها بشكل كبير كما في إدلب).
كل يوم إضافي، هو استثمار إستراتيجي الطابع في سورية المستقبل، هو مزيد من الأطفال والشباب السوريين الذين يتحدثون بالتركية، وتجري تربيتهم على أنّ تركيا هي «البلد الأم»... وكلما طالت فترة عدم الحل ازداد حجم هذا الاستثمار.
ولكي نكون دقيقين أكثر، ربما يقول أحدهم محقاً: ولكن تركيا أيضاً تعاني استنزافاً بسبب استمرار الأزمة في سورية سواء بما يتعلق باللاجئين أو بالمصاريف العسكرية أو حتى بالتكاليف السياسية الداخلية، فأين المنطق في أن يكون لها مصلحة في إطالة الأزمة؟
والتساؤل محق، والجواب عليه ببساطة هو كالتالي: طالما أنّ الحل لم يأت بعد، فمن غير المنطقي أن نتوقع من السلطات التركية (ضمن عقلية الهيمنة والتوسع التي تسيطر عليها) ألا تسعى للاستثمار طويل الأمد بالحالة الراهنة.

متشددو النظام يدعمون التتريك!

تتلقى مخططات تثبيت تقسيم الأمر الواقع، وتكريس الانقسام بين السوريين، لا الجغرافي فحسب، بل والإنساني أيضاً، دعماً كثيفاً من الضفة المقابلة لمتشددي المعارضة؛ أي: من متشددي النظام.
يأخذ هذا الدعم أشكالاً متعددة، ولكن على رأسها بكل تأكيد: تعطيل العملية السياسية، تعطيل الحل السياسي، تعطيل تنفيذ القرار 2254، وهو المدخل الوحيد الذي يسمح باستعادة وحدة سورية شعباً وأرضاً.
فوق ذلك، فإنّ الشعارات السياسية والكلام السياسي ضيق الأفق وقصير النظر الذي يكرره متشددو النظام بتصنيف السوريين ملايين هنا وملايين هناك، بين «جيدين» و«سيئين»، «وطنيين» و«خونة»، يساعد أولئك الذين يعملون على التتريك لكي يزيدوا ارتفاع الأسوار الصينية بين السوريين الموجودين تحت سيطرتهم وبين السوريين الموجودين تحت سيطرة النظام أو سيطرة الإدارة الذاتية... وليست مصادفة بطبيعة الحال أنّ متشددي المعارضة يستخدمون المنطق نفسه والخطاب نفسه اتجاه «الآخر» السوري.
لا يزال المتشددون يعزفون على نغمة موالٍ ومعارض ويطورونها نحو وطني وخائن، أو ثائر وجبان، وإلخ... وكلها تصنيفات وهمية ولا قيمة لها، ولا تمثل سوى قشرة سطحية لظواهر شديدة التعقيد والعمق، في الجوهر منها الفرز الحقيقي للسوريين بين منهوبين يشكلون الغالبية العظمى وناهبين من كل الأطراف، هم قلة قليلة...

أستانا... وحل عسكري

يحاول بعض المتشددين ضمن النظام التهرب من مسؤوليتهم عن الوضع القائم بإلقاء اللوم على مسار أستانا وعلى الروس خاصة، أنهم هم من أسهموا في استقرار الوضع القائم كما هو. (من اللافت أن هؤلاء يتجنبون تحميل الأمريكي أية مسؤولية بما يخص إدلب أو المناطق الثلاث التي جرى احتلالها تركياً بالتنسيق مع الأمريكي تحديداً وبرفض معلن من الروسي).
وبكل الأحوال فإنّ أستانا قد أنجزت تخفيض مستوى العنف ومستوى نزيف الدم السوري إلى الحد الأدنى، وقد وصلت في أداء مهمتها إلى ذروة باتت مطالبة باجتيازها. ولكن الطريف في طروحات المتشددين أنهم يصورون الأمر كما لو أنّ الروس يحجّزون بينهم وبين الأتراك، وربما لولا ذلك لوصل هؤلاء المتشددون إلى اسطنبول عسكرياً!
أو أنهم يطلبون من الروس أن يخرجوا الأتراك بالقوة من المناطق التي يحتلونها، أي: يريدون أن تخوض دولتان بحجم روسيا وتركيا حرباً دفاعاً عن مساحات سورية!
المسؤولية التي لا يمكن الهروب منها هي أنّ الحل الوحيد الواضح هو تنفيذ القرار 2254 كاملاً عبر تقديم تنازلات متبادلة تصب كلها في مصلحة الشعب السوري حصراً، لا في مصلحة الأمريكان ولا الأتراك ولا الروس ولا الإيرانيين، ولا أي أحد آخر. تنازلات تصب في مصلحة المنهوبين الذين لا تزال عملية نهبهم تتعمق وتشتد يوماً وراء الآخر.
المسؤولية التي يتحملها المتشددون في النظام وفي المعارضة عن أنّ أبناء الشعب السوري يعيشون ضمن فضاءات متباينة بالمعاني الثقافية والاقتصادية والسياسية، هي مسؤولية لا يمكن الهروب منها، ولا يمكن التصدي لها بالشعارات اللفظية المعادية للتتريك، وللتقسيم عموماً، بالتوازي مع ممارسات فعلية تصب في مصلحة التتريك والتقسيم!

(النسخة الانكليزية)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1022
آخر تعديل على الإثنين, 14 حزيران/يونيو 2021 14:15