افتتاحية قاسيون 1151: غزة تعيد رسم الإقليم

افتتاحية قاسيون 1151: غزة تعيد رسم الإقليم

عنونت قاسيون افتتاحية عددها الماضي: «الهدنة: بداية الاعتراف بالانتصار الفلسطيني»، وعرضت جملة الأهداف التي أعلنها العدو في بداية عدوانه على غزة، وبينت فشله في تحقيق أيٍّ منها، وأنّ مجرد قبوله بالهدنة يحمل في طياته إقراراً جزئياً بفشله في تحقق تلك الأهداف.

الآن، ومع استئنافه للعدوان، ومع الخسائر الإضافية الإعلامية والسياسية التي مني بها جراء أخلاقيات المقاومة في التعامل مع الأسرى بمقابل انعدام أخلاقه، فإنه يعيد تأكيد حقيقة أنه فشل في تحقيق أهدافه؛ فالعدو يرى نفسه مضطراً لاستئناف العدوان، ليس من باب الانتقام فحسب، بل وأهم من ذلك، أنه ما يزال يرى نفسه خاسراً، ويرى أنّ وقف إطلاق النار هو تثبيت للخسارة وفتح لباب ترجمتها سياسياً، ولذا نراه ومن خلفه الأمريكي، يسعيان سعياً هستيرياً لقلب النتائج، ويواصلان في السياق ارتكاب المجازر والحماقات في آن معاً، سعياً وراء وهم إمكانية الانتصار.

الجانب الآخر المهم في قراءة المسألة، هو أنّ حدود المعركة بالنسبة للمركز الأمريكي والتابع «الإسرائيلي»، ليست حدود فلسطين، بل أوسع وأبعد من ذلك بكثير؛ فالأمريكي يخوض بشكلٍ متوازٍ، وفي عدد من ساحات الصراع العالمي، حربه الشاملة للدفاع عن هيمنته العالمية المتداعية، وضد ميزان القوى الدولي الجديد. والخسارة في فلسطين، لن يطول بها الوقت حتى تتحول إلى ترجمة سياسية واضحة في كامل منطقتنا، والتي تعتبر مفتاحاً بالمعنى الجيوسياسي ربما يفوق في أهميته أي ساحة أخرى من ساحات الصراع العالمي.

لذلك كلّه، فإنّ واشنطن تسعى سعياً محموماً لتوسيع الصراع، ولكن بطريقتها؛ أي عبر محاولة استخدام النار المشتعلة في غزة كفتيل تفجير للمنطقة بأسرها، ضمن «فوضى شاملة» قائمة على صراعات داخلية. وفي هذا السياق، ربما يكون الهدف الأقرب هو مصر، التي يمكن لتفجيرها أن يتحول إلى صاعق ضخم لسلسلة تفجيرات في كامل المنطقة، يكون التالي فيها هو السعودية، وبما يقطع الطريق على التحول التدريجي الجاري على قدم وساق، وفي كامل منطقتنا، باتجاه التخلص من التبعية للأمريكي، وباتجاه علاقات متكافئة وندية تستفيد من التوازن الدولي الجديد.

عنجهية الأمريكي والصهيوني، وعدم قبولهما التصديق بأنّ التغير في التوازن الدولي ماضٍ في اتجاه ثابت لا رجعة فيه نحو زوال الهيمنة الغربية، تصيبهما بالعمى المعرفي، وتدفعهما نحو ارتكاب الحماقات والمغامرات اليائسة، ونحو إحراق مراكبهما بأيديهما. وهذه الحماقات ذاتها، تفعل في نهاية المطاف فعلاً عكسياً؛ فكلما زاد الأمريكان ضغطهم باتجاه تفجير المنطقة ودولها، كلما سرّع ذلك الانعطاف التدريجي في تموضع قوى ودول وأنظمة أساسية في المنطقة، وكلما تجذّر ذلك الانعطاف، وبات تموضعاً ثابتاً.
رغم الآلام والمآسي والتضحيات الضخمة، إلا أنّ النصر الفلسطيني بات واضحاً لكل ذي بصر. وهذا النصر، وإنْ لم يكن نهائياً، إلا أنّ من أفضاله ومن أفضال الشعب الفلسطيني ومقاوميه، أنهم سرعوا ويسرّعون التحولات العالمية بالاتجاه المطلوب والمناسب لمصالح الشعوب. وبما يخص منطقتنا، فهم يسرّعون إعادة رسم الخريطة السياسية الإقليمية بكاملها، ويسهمون في وضعها على السكة الصحيحة، باتجاه استقلال ناجزٍ سياسي واقتصادي، لم يعد بعيداً. وحين يتم، سيكون أول استقلال كامل سياسي واقتصادي في التاريخ الحديث لهذه المنطقة، وسيكون استكمالاً لانهيار الاستعمار القديم، عبر دفن الاستعمار الجديد إلى جانبه في مقبرة التاريخ.

(English version)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1151
آخر تعديل على الإثنين, 04 كانون1/ديسمبر 2023 19:06