الاحتطاب الجائر كافتعال الحرائق والتفحيم.. لمصلحة الأثرياء فقط!

الاحتطاب الجائر كافتعال الحرائق والتفحيم.. لمصلحة الأثرياء فقط!

منذ قيام الحكومة بتخفيض مخصصات الأسرة السورية من مازوت التدفئة المدعوم من 400 ليتر، ثم إلى 200 ليتر، وصولاً إلى 100 ليتر (والتي لا تكفي لمواجهة برد أشهر الشتاء الطويلة) وعلى دفعتين كل منها 50 ليتراً، وغالباً يتم قضم 50 ليتراً منها، معلنةً عجزها الرسمي عن تأمين احتياجات الأسرة لمواجهة برد الشتاء، مع إصرارها على المضي بسياسات قضم الدعم، تركت المواطنين، وخاصة المفقرين، تحت قسوة البرد ومن لا يرحم من لصوص السوق السوداء!

ففي ظل ندرة وانعدام المشتقات النفطية المدعومة من غاز ومازوت (رغم توفرها في السوق السوداء بأسعار تزيد عن 15 ألف ليرة سورية لليتر المازوت الواحد، و150 ألف لأسطوانة الغاز) إضافة إلى انقطاع التيار الكهربائي شبه الدائم، أجبر هذا بعض السوريين على استعادة عاداتهم القديمة باستخدام الحطب (رغم تكلفته المرتفعة) أو أية أشياء قابلة للاشتعال كمصدر للتدفئة!
فقد خرج الحطب من اعتباره مصدراً للدفء بالنسبة للغالبية المفقرة بسبب ارتفاع تكاليفه، ليتم احتكار دفئه من قبل القلة الثرية!

الاحتطاب الجائر وشبكات التكسب!

ظاهرة الاحتطاب خرجت من إطار تغطية بعض الحاجات الأسرية على المستوى الفردي في بعض المناطق، وصولاً إلى التحطيب الجائر كظاهرة باتت منتشرة وبشكل واسع في جميع المحافظات السورية، والتي لم تعد مقتصرة على التعدي على المناطق الحراجية والغابات، بل وصلت إلى التعدي على الممتلكات الخاصة والبساتين، وعلى الأشجار المزروعة في الحدائق العامة وعلى أطراف الشوارع في المدن في بعض الأحيان أيضاً!
فإن كان مبرر عمليات الاحتطاب الفردية هو نقص وشح مصادر الطاقة للتدفئة كحاجة وضرورة خلال السنوات الماضية، إلا أن الجور بالتحطيب لا يمكن أن يبرر إلا بكونه أصبح فرصة لكسب الأرباح تقوم به شبكات عاملة مُدارة بدقة!
فاحتطاب الضرورة الذي يقوم به الفلاحون عادة هو نوع من التقليم والتشذيب، والتخلص من بعض الأغصان للاستفادة منها، فهو لا يأتي على الشجرة بالكامل بل يحافظ على بقائها غالباً، في حين أن ما يجري منذ سنوات هو إزالة للأشجار تحت مرأى الجميع، وباستخدام آليات ومعدات ومناشير حديثة، يعجز المواطن المفقر عن اقتنائها، لتقوم بقطع ونقل الأخشاب يومياً وبالأطنان، وكل تلك التجاوزات «على عينك يا تاجر»، ولتذهب تلك الأخشاب المحتطبة بعد ذلك للأسواق كي تباع للمواطنين المضطرين والمحتاجين لوسائل التدفئة البديلة المتاحة، وغالباً للقادرين على تحمل تكاليفها من الأثرياء فقط!

شهادة رسمية!

نقلت صحيفة الوطن بتاريخ 13/9/2023 عن مدير الزراعة في اللاذقية، باسم دوبا، قوله: «إن محافظة اللاذقية شهدت في الأعوام الأخيرة تزايداً كبيراً في التعديات على الثروة الحراجية وذلك بسبب عدة عوامل انعكست سلباً على الحراج... وأشار إلى أنه وبسبب قلة مصادر الطاقة (غاز- مازوت-…) وارتفاع أسعارها بشكل كبير برزت ظاهرة الاعتماد على الأخشاب والأشجار الحراجية بديلاً عن المحروقات لسد الاحتياجات المنزلية المختلفة (تدفئة– طهي-..) ما زاد من وتيرة التعدي على الغابات والحراج وخلق صعوبات كبيرة في أعمال حمايتها، وزاد من صعوبة ذلك ظهور مجموعة من الأشخاص امتهنت التعدي على الحراج وتهريب الأخشاب والأحطاب الحراجية كـ «تجارة» متذرعين بالفقر وسوء الوضع المعيشي وقاموا بتشكيل مجموعات تدخل إلى المواقع الحراجية وتعتدي عليها وتقوم بتهريب الأخشاب والحطب. وأكد رصد تعديات وقطعيات حديثة للأشجار وأنه تم اتخاذ إجراءات قانونية بها من عناصر الضابطة الحراجية».
وعن الإجراءات القانونية المتبعة أوضح دوبا أن «القطع من المواقع الحراجية يعتبر مخالفة يعاقب عليها قانون الحراج بالحبس من 6 أشهر إلى سنتين وبالغرامة من خمسمئة ألف إلى مليون ليرة سورية... ولفت إلى أنه على الرغم من قيام كوادر مديرية الزراعة– دائرة الحراج بأقصى الإجراءات لقمع المخالفات إلا أن الإمكانات المادية والبشرية والناحية القانونية للإجراءات لم تكن كافية لوقف هذه التعديات، إذ إن تنظيم الضبوط الحراجية وإحالتها إلى القضاء وفقاً لأحكام قانون الحراج لم يردع المخالفين بالشكل المطلوب، إنما خفض وتيرة المخالفات إلى حد بسيط».
الحديث الرسمي أعلاه هو مثال يمكن تعميمه على كل المحافظات التي تتعرض فيها الحراج والغابات للتعدي، فهو يسلط الضوء على ظاهرة الاحتطاب الجائر بأسبابها وبعض نتائجها، مع الإشارة إلى أن الإجراءات القانونية غير رادعة!
فمن يتم ضبطهم ويتم تجيير المسؤولية عليهم غالباً هم بعض العاملين في شبكات التحطيب، وليس من يديرهم ويقوم بالاتجار بالحطب للتكسب وحصد الأرباح الكبيرة!

حسابات التكلفة واحتكار الدفء!

أشهر البرد القارس خلال فصل الشتاء هي (كانون الأول وكانون الثاني وشباط وآذار) أي 120 يوماً تقريباً، والاعتماد على المازوت للتدفئة يحتاج وسطياً 4 ليتر يومياً، أي 480 ليتراً خلال هذه الأشهر، ومع التقشف 400 ليتر خلال فصل الشتاء، فإذا تم استلام 50 ليتراً بالسعر المدعوم، فإن ذلك يعني الاضطرار لتأمين 350 ليتراً بالحد الأدنى عبر السوق السوداء وبسعرها، أي بتكلفة تتجاوز مبلغ 5 ملايين ليرة، بحال كان الليتر بسعر 15 ألف ليرة!
مقابل ذلك فإن اللجوء للحطب للتدفئة يحتاج وسطياً 10كغ يومياً، أي بكمية 1,2 طن خلال أيام البرد، ومع التقشف 1 طن، وسعر الحطب وسطياً هو 2 مليون ليرة/طن، وذلك بحسب نوعه وجودته ودرجة جفافه!
على ذلك فإن استخدام الحطب للتدفئة، على الرغم من تكلفته المرتفعة، هو أقل تكلفة من المازوت، وأكثر دفئاً منه!
ومع ذلك فإن هذا وذاك من وسائل التدفئة (مازوت- حطب)، وفقاً لحسابات تكلفتها المليونية المرقومة أعلاه، هي خارج إمكانات الغالبية المفقرة في ظل ظروفها المعيشية الصعبة ودخلها المحدود، وليبقى الدفء بالتالي حكراً على الأثرياء، فيما يلتحف المفقرون البرد، أو يضطرون للاستعانة بكل ما هو متاح من مواد قابلة للاشتعال (بلاستيك- أقمشة بالية- أكياس نايلون...) عسى يحصلون على بعض الدفء منها، على حساب صحتهم وعداد عمرهم!
فعمليات التحطيب الجائرة التي تستفيد منها شبكات النهب والفساد على شكل أرباح هي بالواقع العملي لمصلحة النخبة الثرية من أجل تدفئتها، فيما تعمم موبقاتها وكوارثها على المفقرين، مع تحميلهم مسؤوليتها!

كارثة بيئية وحيوية عامة!

تتراجع رقعة الأحراج والغابات عاماً بعد آخر، بسبب الحرائق (الطبيعية والمفتعلة)، وبسبب الاحتطاب الجائر والمجرم، وهذا الأمر لا يقتصر على أحراش وغابات حمص وحماة والمنطقة الساحلية، فالتراجع طال ضفاف بردى وسهل الزبداني ومضايا وبقايا الغوطة في ريف دمشق، كما اختفت مزارع وأحراش كاملة بريف القنيطرة ودرعا والسويداء وفي غيرها من المحافظات!
فالكارثة معممة، ولا تقف عند حدود الإضرار بالجانب السياحي أو بالمستويات الاقتصادية الاجتماعية والثقافية، بل تتعداها إلى الجانب البيئي والتوازن الحيوي العام، حاضراً ومستقبلاً!
بمعنى آخر فإن تراجع الأحراج والغابات والغطاء النباتي عموماً، له بعد وطني عام، فهذا التراجع يعتبر كارثياً على كافة الأصعدة والمستويات، وما يزيد الطين استمرار الحرائق وعمليات التحطيب الجائر والتفحيم والرعي الجائر أيضاً!
فمن يصدر حكم الإعدام بحق البيئة والمستقبل، عبر الحرائق أو كسر الحراج أو التفحيم والاحتطاب، سواء في بحثهم عن المزيد من فرص التربح أو من أجل احتكار الدفء، هم نفسهم شريحة كبار الناهبين والفاسدين في البلاد، غير العابئين بكل العقوبات القانونية التي تستثنيهم فيما تجيَّر غالباً على المفقرين!
لنعيد التأكيد بأن كل الكوارث كنتائج هي بسبب السياسات التمييزية والظالمة المتبعة، اعتباراً من سياسات تخفيض الدعم الجائرة، وصولاً إلى سياسات الإفقار المعمم!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1142
آخر تعديل على الجمعة, 20 تشرين1/أكتوير 2023 23:30