«مفيستو- فالس» لفرانتز ليست: الموسيقى سيرةً ذاتية
إبراهيم العريس إبراهيم العريس

«مفيستو- فالس» لفرانتز ليست: الموسيقى سيرةً ذاتية

من بين كل الأنواع الموسيقية التي خاض فيها، من الواضح أن فرانتز ليست كان يميل أكثر ما يميل الى النوع الذي سمي بـ «القصيدة السيمفونية». وهو غالباً ما بنى موسيقاه في هذا المجال انطلاقاً من قصائد شعرية حقيقية كان يرى انها تتيح له، بموسيقاها الداخلية والخارجية، أن يستلهم الحاناً غالباً ما كانت تأتي انطباعية و... شاعرية طبعاً.

وفي هذا الاطار ترك لنا ليست قصائد سيمفونية لُحّنت إنطلاقاً من قصائد لفكتور هوغو وغوته ولامارتين وبايرون وشيلي وشيلر وغيرهم. ومع هذا، بين كل هذه الأعمال تبقى القصيدة السيمفونية المسماة «مفيستو - فالس» الأشهر والأجمل، بل كذلك الأكثر تعبيراً عن الروح الداخلي القلق لليست. وعلى عكس ما يمكن تصوره، فإن هذه القطعة الفنية الرائعة، ليست مبنية على جزء من مسرحية «فاوست» لغوته، بل على قصيدة للشاعر ليناو، اقتبسها هذا من نسخ فاوست المتعددة والتي يعود بعضها الى التراث الألماني السابق على غوته.

لا يقول فرانتز ليست صراحة، في عنوان هذا العمل انه يضمه الى نوع «القصيدة السيمفونية»، ومع هذا فإن الباحثين والهواة في شكل عام، تعاملوا معه على انه ينتمي الى ذلك النوع، علماً أن استخدام كلمة «فالس» في العنوان، لا يعني أن ما نسمعه هنا فالس وحسب. الفالس يشكل جزءاً من العمل فقط، لكنه جزؤه الأساس، بل حتى لازمته التي تعطيه معناه ودلالته. وفي العمل أيضاً لحظات موسيقية أخرى، أكثر رومنطيقية وتعبيراً عن جوانية الشخصية الرئيسة هنا (وهي أيضاً شخصية «فاوست» وإن كان مفيستو لا يقل عنه أهمية وحضوراً)... فالعمل في نهاية الأمر إبداع فني موسيقي متكامل، يبدو في نهاية الأمر، أشبه بعالم مسرحي شامل.

بداية لا بد من الاشارة الى ان فرانتز ليست، وفي أعمال عدة له، كان أبدى اذعانه لولعه شخصياً بحكاية الشيطان، ولا سيما بحكاية مفيستو - فاليس، الشيطان الذي أغوى فاوست بعقد اتفاق معه. وكان ليست قد مكن الشيطان من تحقيق انتصار كبير له في عمل سابق كان كتبه بعنوان «سيمفونية فاوست»... لكنه، وكما يبدو، لم يجد ان ذلك كان كافياً، لذا، ما إن وقعت بين يديه قصيدة طويلة للشاعر ليناو، حتى أحس ان في إمكانه أن يضع موسيقى جديدة انطلاقاً من هذا النص، وان في إمكان هذا العمل الجديد أن يشكل مع السيمفونية القديمة ثنائياً ذا مغزى. ومن هنا يعتبر الدارسون الموسيقيون عادة «مفيستو - فالس» جزءاً ثانياً مكملاً لسيمفونية فاوست، حتى وإن كان من النادر سماعهما تقدمان معاً.

على أية حال، يعتبر الدارسون ان «مفيستو - فالس» عمل أكثر حميمية بالنسبة الى ليست، في معنى ان هذه القطعة تبدو في حقيقة أمرها أكثر تعبيراً عن جوّانيته، بل إنهم إذ يوغلون في تحليل هذه السمة يصلون الى حدّ التأكيد على ان في «مفيستو - فالس» نوعاً من سيرة ذاتية مواربة، تتعلق بمرحلة شديدة الصعوبة والعاطفية في حياة ليست. ولا بد من الاشارة هنا، طبعاً، الى أن من يعبر عن ليست هنا، ليس مفيستو (الشيطان)، بل فاوست، الذي يظهر في العمل مخفوراً بمفيستو، ثم يحاول أن يفلت منه مستقلاً في ذاته... ولكن هيهات...

لدينا إذاً، هنا، الإطار العام للعمل... وبات علينا الآن الدخول في تفاصيله، علماً بأن العمل كما وصل الينا مكتملاً آخر الأمر، لم يكن هو نفسه القطعة الأصلية التي لحنها ليست للمرة الأولى في العام 1857... فالغريب في الأمر ان ليست، على غير عادته، كان يعود في كل مرة الى هذه القصيدة السيمفونية يعدّلها ويشذّبها ويضيف اليها مرات ومرات، وكأن «شيطان موسيقاه» كان يملي عليه ذلك، ما أسبغ على العمل في نهاية الأمر، سمات ابداعية مدهشة. والآن عمّاذا يحكي هذا العمل الذي أولاه ليست هذه العناية كلها؟ انه يحكي عن فصل محدد من حكاية العلاقة بين فاوست ومفيستو. وتدور أجواء هذا الفصل في نزل ريفي، يطالعنا أول ما يطالعنا، والفلاحون ساهرون فيه متحلقين يصخبون وينشدون حول طاولة... غير انه، في وسط موسيقى الصخب والسهر تلك، ثمة في أفق الموسيقى لحن غريب يبدو مقلقاً إن لم نقل انه يحمل نوعاً من التهديد. وسيتبين لنا بعد ثوانٍ، ان هذا اللحن انما يعلن عن وصول مفيستو الى المكان في صحبة فاوست، وكذلك في صحبة جمع من شياطين آخرين غير مرئيين بالتأكيد، إنما يُحَسّ وجودهم بكل قوة. أما مفيستو فإنه متنكر في زي وقناع من النوع الذي اعتاد وضعه مغنو الريف الجوالون. وهو ما إن يصل الى الحلقة، حتى يضبط إيقاع كمان يحمله ويبدأ في عزف لحن فالس سريع... بل متزايد السرعة بالتدريج، في ايقاع شيطاني لا يخفى على أحد... ولا حتى على الفلاحين الريفيين البسطاء الذين على رغم هذا سرعان ما يجدون أنفسهم مذعنين لإغواء هذه الموسيقى الرائعة مع علمهم بسماتها الشيطانية الأكيدة... وهكذا يتابعون الايقاع بحركاتهم، ما يزيد مفيستو حماسة، إذ يصبح الفالس في نهاية الأمر موسيقى سحرية مرعبة وفاتنة في الوقت نفسه. وفي خضم هذا كله يبدو واضحاً أن فاوست انما يريد الفرار ازاء هذا المشهد الذي يثيره سلبياً ولم يعد قادراً على تحمله. وهنا إذ يتمكن فاوست من الخروج من المكان داخلاً الغابات حيث يسير بخطوات قلقة، يبدأ الفالس لوهلة بالتلاشي لتحلّ مكانه موسيقى اخرى ناعمة هادئة مفعمة بالحنين وصفاء الروح وكأن فاوست استعاد فجأة الحياة الروحية التي كان يجب أن تكون حياته. غير ان ذلك لا يطول كثيراً، إذ سرعان ما يكتشف ونكتشف معه أن أصداء الفالس الشيطاني السحري، لا تزال تعبق في الجو، آتية من بعيد، بعد تضاؤل حدّتها لوهلة. غير ان الصراع يشتد عند هذه اللحظة بين أصداء الفالس من ناحية، وضجيج الريح وأصوات مخلوقات الغابات الأليفة الخفية، وأصوات زقزقة العصافير. واضح هنا ان كل هذا يخلق لدى فاوست نوعاً من الأمل في استعادة ماضيه وحياته، إذ يتمكن من التخلص من سطوة مفيستو عليه. ولكن ما إن يصل فاوست في تفكيره الى هذا المستوى الواعد، حتى - وفي شكل تدريجي يبدأ بطيئاً ثم يتصاعد - يعود الفالس صاخباً وبقوة من جديد معلناً حضور مفيستو. يحاول فاوست المقاومة، يستعيد من داخله موسيقى الروح ويصغي بأمل الى عندليب يغني... لكن هذا كله لا ينفع. إذ في لحظة يكون فيها فاوست قد وصل الى ذروة حنينه الى لحظات السمو، يعود اليه شيطانه عنيفاً ساخراً، وسط موسيقى الفالس وقد وصل الى ذروة عنفه، فيقبض عليه من جديد ساحباً إياه رغماً عنه الى مغامرات جديدة وآفاق شيطانية لا برء منها.

عندما قُدّم هذا العمل للمرة الأولى، قُدّم في توزيع اوركسترالي صاخب، غير ان ليست وبعد حين، عمد الى اعادة كتابته لكي يقدم من طريق آلة البيانو وحدها، ومع هذا كان من المدهش ان العمل لم يفقد بذلك التحويل أي قدر من قوته وتلونه وغناه الأوركسترالي، بحسب ما يقول الذين كتبوا عنه بإعجاب. ولا بد ان قولاً هنا، أيضاً، نقلاً عن هؤلاء الدارسين، ان ليست كتب فالسات اخرى عدة مستوحاة من شخصية مفيستو، لكن أياً منها لم يصل في قوته الى مستوى هذا العمل الاستثنائي.

حين كتب فرانتز ليست (1811 - 1886) «مفيستو فالس» كان في السادسة والأربعين من عمره، وكانت سمعته قد تأسست وتوطدت كعازف بيانو ومؤلف، ولكن أيضاً كمجدد في شتى أنواع الموسيقى. ومن أبرز أعمال ليست، الى جانب ما ذكرنا، «كريستوس» و «فانتازيا» و «حكاية القديسة اليزابيث» و «رابسودي مجرية» و «شتابات ماتر» والعديد من السيمفونيات اضافة الى عدد من الكتابات النظرية.

 


المصدر: الحياة