الدحيح: أي العلوم تستحق «الشعبنة»؟
تضعنا برامج العلوم الساخرة، «الدحيح» نموذجاً، أمام إشكالية تتعلق بتبسيط العلوم لغير المختصين وتكريسها لسطوة مؤسسات علمية محددة من الإنترنت

الدحيح: أي العلوم تستحق «الشعبنة»؟

بعد تعاونٍ دام ثلاث سنوات، أعلنت قناة «الجزيرة بلس»، عبر بيانٍ لها توقف برنامج الدحيح الذي يقدمه الإعلامي المصري أحمد غندور، مما أثار حالة من الحزن والجدل على مواقع التواصل الاجتماعي، وأعاد النقاش حول الأسباب الحقيقة المحتملة لهذا الإيقاف كخلافات أيديولوجية بين مضمون البرنامج وسياسات قناة الجزيرة وتوجهاتها الدينية.

لكن هذا المقال لن ينشغل بتحليل أسباب التوقيف، بل سيتخذ من النقاش الدائر اليوم حول البرنامج وشعبيته مدخلاً للتطرق لأفكار أخرى تتعلق بتحديات تطوير محتوى جذّاب يحقق المعادلة الصعبة بإمتاع الناس وإفادتهم حقاً.

نظرة إلى الوراء حول صعود الدحيح

درس أحمد غندور (26 عاماً) علم الأحياء في الجامعة الأمريكية في القاهرة وبدأ قبل سنوات برنامجاً على اليوتيوب بإمكانات بسيطة. حمل برنامجه اسم «الدحيح» ورفع شعار «شعبنة العلوم» عبر تقديم الأفكار العلمية والفلسفية بأسلوب مبسط وساخر لغير المختصين.

من حيث الشكل، يُطل غندور أسبوعياً على جمهوره من استديو تم تحويله إلى ما يشبه غرفة شاب جامعي من طبقة متوسطة، نرى فيها سريراً وجهاز كومبيوتر وبعض قطع الأثاث البسيطة. ما يميّز الديكور الشعور بالاكتظاظ الذي يتركه، والمتولّد بصورة أساسية من كثافة الصور والملصقات التي تم تعليقها على الجدران، والتي تشي بالاهتمامات المختلفة لصاحبها، بحيث تكرّس إلى حد كبير الإحساس بكثافة ما يريد قوله.

تختار كل حلقة من حلقات الدحيح موضوعة محدة، قد تكون عبارة فلسفية، مثل: «القلة هي الكثرة» أو تساؤل حول إحدى النظريات الفيزيائية كالثقب الأسود والإنفجار الكبير. أو تختار الإضاءة على شخصية شهيرة من هتلر إلى ميسّي. انطلاقاً من هذه الموضوعة المحددة يتدفق حديث الدحيح ويتشعب مُقدّماً للمُشاهد تواريخ وأمثلة تدعم فكرته، والأهم من ذلك: أنه يلحقها بسيل من أسماء الباحثين والكُتّاب والجامعات «المرموقة» التي تمنح تلك الأفكار مزيداً من القداسة وتجعلها تبدو أقرب إلى المسلمات.

حول خصوصية المضمون

تضعنا برامج العلوم الساخرة، «الدحيح» نموذجاً، أمام إشكالية تتعلق بتبسيط العلوم لغير المختصين وتكريسها لسطوة مؤسسات علمية محددة. فالخوف يتجلى هنا في تبني الجمهور للمعلومات كما وردت، بما يخلق إيحاءً بمعرفة زائفة حول نظريات وقضايا بالغة في التعقيد. فالبرنامج يعيد النقاش حول كيفية الحكم على مصداقية المصادر، خاصةً مع الأخذ بعين الاعتبار أن مجتمع البحث العلمي تحكمه علاقات معقدة قائمة أحياناً على شراكات بين جامعات ومؤسسات بحثية وشركات عابرة للقارات، بحيث قد تدعم الأخيرة مثلاً مؤتمراً علمياً لترويج أفكار معينة كما اعتادت شركة بيبسي مثلاً على دعم مؤتمرات تؤكد تماماً أن السكر المستخدم في المشروب الغازي للحمية ليس مضراً. إلى جانب إشكالية المصادر، يتبنى الدحيح صراحةً منطلقات فكرية مستقاة من اقتصاد السوق الحر، وتحديداً تلك التي تحكي عن بعض استراتيجيات التسويق أو كيفية نشر أفكار مستحدثة، ويعالج من نفس التوجه مفاهيم اقتصادية، مثل: البطالة والربح والتنمية الاقتصادية.

المزاوجة بين المنصات الرقمية والتلفزيون


تقدّم برامج اليوتيوب نفسها باعتبارها حركة احتجاج على وسائل الإعلام التقليدية، والخطوط الحمر والأطر التحريرية المغلقة. لكن يبدو اليوم أن الخصام بين الاثنين قد تلاشى، خاصةً مع العروض السخية التي تقدّم من قنوات مختلفة لليوتيوبيين الناجحين من أجل إنتاج برامج احترافية بميزانيات ضخمة. وهذا ما حصل مع برنامج الدحيح حينما اشترته المنصة الرقمية لقناة الجزيرة (AJ+) قبل ثلاث سنوات، مما زاد من انتشار وشعبية البرنامج وضمن وصوله إلى شرائح جديدة من المتابعين.

تبعاً للمنطق البسيط، يمكن لأي شخصٍ تأسيس قناة على اليوتيوب والتوجه إلى ما يقارب البليون شخص. لكن الحقيقة أنه وفي عالم مزدحم مشابه، ينشط عمل أدوات الاصطفاء. فاليوتيوب اليوم أشبه ببرنامج ضخم لاختيار الهواة. لجنة التحكيم هنا مؤلفة من قنوات تلفزيونية ومنظمات دولية وعلامات تجارية تبحث عن وجوه جديدة أو شبّان موهوبين ذو شعبية، يحملون اسمها ويروّجون لمنتجاتها أو أفكارها. أما تجارب الأداء فتحصل بصورة عفوية وعلى امتداد زمني طويل، فما على لجنة التحكيم سوى مراقبة «مقياس الشعبية والانتشار».

ماذا تقول لنا شعبية الدحيح؟

تخبرنا شعبية برنامج الدحيح بأمرٍ مهمٍ جداً، فهي تدلل على أن الناس في العمق يرغبون في متابعة مضامين تبدو لهم «عميقة» أو «ذات مغزى» أو تحتوي على جرعة علمية وفكرية، فهم يريدون الإحساس بهذه القيمة دون أن يرهقوا أنفسهم حقاً بالبحث والتقصي، يريدون الثقل لكنهم يريدون الخفّة أيضاً. والدحيح بصورة أو أخرى يتيح لهم هذا الأمر، فهو يكرّس لديهم شعوراً بأنهم تعلموا شيئاً جديداً، أو استثمروا جزءاً من وقتهم بالحصول على معلومات ذات قيمة، دون الشعور بالملل. وعلى الرغم من أن المشاهدين وبسبب طبيعة السرد المكثفّة قد لا يستطيعون التوقف لمحاكمة المعلومات التي يسمعونها، ناهيك عن محاولة التدقيق فيها أو أخذ موقف منها.

يحتاج تحليل ظاهرة إعلامية كالدحيح توخي الدّقة، بسبب تعقّد العوامل التي ينبغي أخذها في الحسبان. من جهة لا يمكن إنكار الموهبة الاستثنائية للمقدم القائمة على خفة الدم والذكاء والمقدرات التمثيلية، إلى جانب براعته في خلق نوع خاص من الألفة مع المشاهد بحيث يشعر الأخير أنه أمام صديق ثرثار محبب. هذا ولا يمكن أيضاً إنكار جاذبية فكرة رفع شعار «جعل العلم ممتعاً ومتاحاً للجميع». لكن ومقابل هذه الخصوصيات هناك الكثير من الإشكاليات التي ينبغي أخذها في الحسبان. فالدحيح تحوّل من مبادرة خلاقة ومختلفة إلى منتج إعلامي تشتريه الشبكات الإعلامية التي تمتلك المال الأكبر. ربما الأمر الأساسي الذي أثار دهشة جمهور البرنامج في الأيام القليلة الماضية، اضطرارهم لاكتشاف بأن صديقهم الثرثار لا يتكلم لوحده، بل يتخفى وراءه فريق ضخم مدعوم بمقدرات إنتاجية ضخمة تروّج وتدعم أفكار محددة، وبالتالي فالسؤال اليوم: أين سيظهر الدحيح لاحقاً ومع من سيتعاقد، وأي نوعٍ من الأفكار والمعارف يريد لها أن تكون متاحة للجميع؟

معلومات إضافية

العدد رقم:
970
آخر تعديل على الخميس, 18 حزيران/يونيو 2020 14:55