الوعي واللاوعي.. والمزيد

الوعي واللاوعي.. والمزيد

تجمع الطلاب في إحدى غرف المختبرات في جامعة «يال» الأمريكية، كانت مجموعة قليلة من عشرة جامعيين من مختلف الاختصاصات، «توجهوا إلى القاعة الثالثة في طابق المختبرات بعد انتهاء حصصكم اليومية»، كانت هذه الجملة الوحيدة التي سمعها كل منهم في بداية الدوام، تملكهم الفضول على الفور، وتوجه كل منهم إلى المكان المطلوب وفي الموقت المحدد

لكن «المصادفة» شاءت أن يتحاشى كل منهم اصطدامه بأحد فنيي المختبر في طريقه إلى هناك وهو يحمل كومة كبيرة من الأغراض، لم يكن يعلم أي منهم بأن هذه لم تكن «مصادفة» على الإطلاق، هي جزء من اختبار دقيق أعدته إدارة قسم الدراسات النفسية في الجامعة، اختبار قد يبدو سخيفاً في البداية، لكن نتائجه كانت مذهلة إلى حد فاق التوقعات

يتبادل الطرفان الاعتذار، لقد تحاشى الطالب الاصطدام في الثواني الأخيرة، لكن فني المخبر يسارع بطلب المساعدة من الطالب ليعينه في حمل تلك الأغراض، يزيح الفني عنه كومة من الورق المقوى ومجموعة من الأشرطة اللاصقة ويطلب العون في تناول أحد الأكواب من يديه، كوبان من القهوة على وجه التحديد، الأول مثلج والأخر ساخن، وعلى الطالب اختيار أحداها ليخفف عنه عبء ما يحمل، يختار الطالب ما يشاء، ثم يتابع الاثنان دخولهما إلى القاعة، يرمي الفني الأغراض على الطاولة ويناول الطالب ورقة اختبار نفسي معدة مسبقاً، تحوي الورقة على قصة قصيرة تصف شخصية افتراضية وكان على الطالب الإجابة عن سؤال صغير: «قم باختيار الصفات اللائقة بهذه الشخصية من المجموعة أدناه»، وهنا بيت القصيد، فقد تم فرز نتائج هذا الاختبار بعد تجربته على جميع الطلاب وتبين أن من اختار الكوب المثلج من القهوة رأى بأن الشخصية تلك باردة، أنانية، وغير اجتماعية، وعلى العكس تماماً ممن قد حمل كوب القهوة الساخن بين يديه، فهل هذه مصادفة؟!
قدمت هذه التجربة على الرغم من بساطتها كثيراً من التساؤلات، وانضمت إلى مجموعة جديدة ومكثفة من التجارب التي يجريها علماء النفس اليوم حول العالم، الموضوع هو «اللاوعي»، والهدف هو اكتشاف المزيد عن هذه المنطقة المعتمة من رؤوسنا، والتي أرجعها العلماء لتفسير العديد من الظواهر اليومية في حياتنا، فقد اكتشف البعض بأن عمل ربة المنزل في تنظيف الغرف كل اليوم سيكون أكثر دقة وفعالية إن اشتمت رائحة سائل التنظيف في الجو، كما اكتشف البعض الآخر بأن رجال الأعمال الأكثر تنظيماً في أعمالهم اليومية هم الرجال الذين يحتفظون بحقائب مستنداتهم في مكان يقع في مجال رؤيتهم على الدوام، بالإضافة إلى العديد من الظواهر الأخرى التي نجهل أسبابها أو حتى وجودها أصلاً.
توصل العلماء إلى الكثير في هذا المجال، لقد تبين بأن «اللاوعي» أشد فعالية وقوة واستقلالية من شقيقه المعروف «الوعي»، كما أن الدراسات تتجه اليوم إلى «تحفيز» هذا الجانب من التفكير لرفع سوية النتاج الفكري البشري، ولتفسير العديد من الظواهر المرتبطة بالعلاقة بين الحواس والدماغ وتأثيرها على السلوك والرغبات عن طريق تفعيل خيارات وتفضيلات مدفونة في أعماق أعماق دماغنا، وقد عمل الكثير من العلماء على متابعة النشاط الدماغي «اللاواعي»  لتحديد المناطق المسؤولة عن هذه الفعالية العالية في الاداء، واتفق الكثير منهم على «سطوة» اللاوعي على حياتنا، أنه يقرر ما الذي علينا أن نفعله وما الذي علينا أن نفكر به أو حتى ما نشتريه أو نقدسه، وهنا تجدر الإشارة إلى أن الشركات الاستهلاكية الكبرى مثل «كوكا كولا» و«بيبسي» و«أديداس» وغيرها هي من أكرم الداعمين لهذه الدراسات، والهدف، تشديد القبضة على الزبون وملاحقته في مجاهل اللاوعي بعد أن تملكت وعيه.
في المقابل، وفي عالم مغمور بالبيانات اليومية الكثيفة، يعمل بعض العلماء على تحسين قدراتنا الذهنية من خلال تطوير أدوات للعالم الافتراضي بالاستناد إلى أبحاث اللاوعي، وربما التوصل إلى أدوات الكترونية تحمل بنية الدماغ الواعي وحواسه بالإضافة إلى قدرة اللاوعي المثير على المعالجة الفائقة، يقول «يدرو اوميداس»، باحث الحاسوب في جامعة بومبيو فابرا: «ندمج تقنيات مختلفة جداً. منصات لواقع افتراضي ومختلط تتيح لنا استخلاص ما نرغب من المعلومات. من ثم، نستخدم أنظمة مراقبة تتيح لنا أن نفهم كيفية التحرك داخل فضاء معين. ولدينا أيضا أجهزة استشعار فسيولوجية مختلفة لقياس معدل ضربات القلب أو التنفس للتمكن من التقاط إشارات الشخص الذي يستخدمها، من خلال الوعي واللاوعي. التحدي الأكبر هو كيفية دمج كل هذه المعلومات بطريقة متماسكة». وتقول زميلته «آنا مورا»، المتخصصة في علم الأعصاب: «نعمل على رفع مستوى عمليات اللاوعي ليصل إلى مستوى الوعي. هذا قد يساعدنا على استكشاف مزيد من المعلومات في قواعد البيانات المعقدة. المعلومات التي سيكون من المستحيل تحليلها دون هذه المساعدة الإضافية. العمل بدماغين أفضل من دماغ واحد»!
ما زالت مشاريع «اللاوعي» العلمية في بدايتها، لكنها تعد بالكثير لأنها تتعامل مع أشد الأدوات تعقيداً وغنى، الدماغ البشري المليء بالأسرار والغموض، لكنها سلاح ذو حدين، يستخدم لتمرير تغييرات في السلوك قد تبدأ بخيارات التسوق وتنتهي بتعديل المزاج الشعبي لمجموعات كبيرة من الناس حول مواضيع كبرى كالحروب والأمن والاقتصاد، وهنا يحضرني مشهد شهير من أحد الأفلام المعاصرة التي تناولت هذا الموضوع، ففي الفيلم الشهير Inception من إنتاج عام 2010 يتقدم بطل الفيلم «كوب» من رجل يجلس في أحد المطاعم وهو يحتسي كأساً من الشراب، يتناول كرسياً ويجلس بجانبه، ينظر الرجل إلى «كوب» متعجباً، لم يره من قبل في حياته، يهمس بطلنا في أذن الرجل بعض الكلمات «أنت الآن في حلم، لقد قام البعض بتنويمك بقصد الدخول إلى اللاوعي خاصتك، إنهم يريدون منك شيفرة معينة لفتح الخزنة الخاصة بوالدك، لكن لا تقلق، انا حارس اللاوعي المدرب لديك، وسأعمل على حمايتك منهم»!!