ترسيم «حدود» الأزمة أم تجاوزها؟

يلعب التصعيد الميداني العسكري الذي نشهده في سورية في هذه الفترة الممتدة على تخوم العامين 2013 - 2014 والسابق للمؤتمر الدولي المفترض انعقاده في 22 من الشهر الجاري، دوراً محدداً يهدف إلى استباق نتائج المؤتمر وتحويله من فرصة لإيقاف التدخل الخارجي والعنف وإطلاق العملية السياسية إلى مائدة لتحاصص السلطة بين متشددي الطرفين مع الحفاظ على النظام القائم بجوهره الاقتصادي-الاجتماعي

معاناة السوريين المتزايدة منذ بداية الأزمة وصلت ذرى خطيرة جديدة مع أواخر العام المنصرم، مع القتل الوحشي الجماعي، فمن معلولا وعدرا العمالية،  وعلامات الاستفهام العديدة حول ما حدث فيهما، وليس انتهاءً بعشرات الأرواح البريئة التي تزهق يومياً في حلب وريفها بين ناري «البراميل المتفجرة» من جهة و«قذائف جهنم» من جهة ثانية. 

إنّ الحاجز الذي دأب على إقامته وزيادة علوه وسماكته كل أطراف الأزمة بات تكثيفاً رمزياً للأزمة المفروضة على المواطن السوري، بما يجسده من تقييد لحريته وعرقلة لتقدمه وبطئ قاتل يكبح حركته، وبلا مبرر منطقي في كثير من الحالات. فهُم يمهدون بتصعيدهم اليوم إلى أن يستغلوا جنيف غداً من أجل قوننة وشرعنة استمرار الحواجز القاسمة للسوريين عمودياً. إنهم يخططون لاستغلال المؤتمر وتحويله من فرصة للسلام إلى عملية «ترسيم حدود» بين المتشددين.

هذا ما يفسر على ما يبدو الاستعصاء والعرقلة المستميتة حول شكل تمثيل القوى المختلفة السورية والإقليمية في المؤتمر، ولاسيما المعارضة التي لم تعد سراً محاولات إقصاء أجزائها الأكثر جذرية من حيث البرنامج الاقتصادي-الاجتماعي والوطني العام بسبب تناقضه مع برنامج التحاصص الرجعي وإن لم تعلنه القوى الحاملة له من الطرفين.  كما ويعلل عشق الطرفين المتشددين موضوعياً لبعضهما البعض، إذ لا يطيقان أن يحضر بينهما أو معهما أيّ «عزول» قد يعكر صفو غزلهما واتفاقهما هذا.
يلاحظ أيضاً وبالتوازي موجة موازية إعلامياً، وضمناً إعلام «الإشاعة». إذ أنّ السيل الكبير واالمتقاطع من الإشاعات التي انهالات على المجتمع السوري مؤخراً، حاولت وتحاول النيل منه على مستوى جديد لإقصاءه ما أمكن عن عوامل وحدته الوطنية باتجاه فرض لغة «مكونات» ما قبل الدولة الوطنية، وفرض حدود عمودية تفرقه وترهبه حسب الدين أو الطائفة أو القومية..إلخ، وهذا يدل على الطبيعة اللاوطنية المعادية للشعب للجهات المنظمة والممولة لمراكز بثه، سواء أكانت داخلية أم خارجية.

ولا يكتمل الفهم العميق لمشهد التصعيد في الساحة السورية اليوم، إلا كجزء من توتير ووحشية معممة إقليمياً وعالمياً، تعيد التأكيد على خطورة الموجة الجديدة من الفاشية، التي رغم أشكالها الجديدة تظل مغرقة في الرجعية لدرجة استعادة رموزها وسلوكها القديم في وحشيته ضد الإنسانية عموماً وضد الطبقة العاملة خصوصاً والعابر للحدود. إنّ القبضة الصفراء للطاعون الأسود هي ذاتها، سواءً بأصابعها الثلاثة في أوكرانيا، أو الأربعة في ميدان «رابعة العدوية».
 في الحرب الدائرة في سورية، واستمرار قتل وخطف واعتقال ومحاصرة أكبر عدد ممكن من السوريين، من أجل صفقات تبادلهم السلعي بوصفهم «بضائع» بشرية، أو حتى التخلص من «فائض الإنتاج»، لتحقيق الربح الأعلى وضمان «إعادة إعمار» تطيل أعمار وكلائهم من الناهبين والفاسدين من الطرفين على حساب أغلبية السوريين من الفقراء والمنهوبين. لكن في حسابات التاريخ فإنّ هذه الأغلبية الطبقية ليست مسحوقة فقط، بل و«ساحقة» أيضاً، إن هي استطاعت الاستفادة من اللحظة التاريخية لتحول صفتها هذه من كمّية إلى نوعية. ونتائج المؤتمر الدولي بأسوأ الأحوال ستأخر هذه العملية إن خرجت بتحاصص وتغيير شكلي على حساب الشعب، وبأحسن الأحوال سوف تسرع هذه العملية في حال نجح المؤتمر في إيقاف التدخل الخارجي ووقف العنف، وإطلاق عملية سياسية سلمية.