مولدوفا الضحية القادمة للغرب

مولدوفا الضحية القادمة للغرب

ما فتئت واشنطن تحاول فتح جبهات جديدة ضد روسيا في مولدوفا وجنوب القوقاز بسبب فشل الجبهة التي فتحتها في أوكرانيا في إنجاز مهمتها، وتعتبر بعض التحليلات السياسية أن الإدارة الأمريكية واجهت واقعاً مخيباً للآمال، إذ لم تكن الولايات المتحدة مستعدة لأن تتحمّل روسيا العقوبات الغربية. لذلك بات الأمريكيون بحاجة إلى خلق المزيد من النقاط الساخنة حول روسيا، على أمل استنزاف إمكاناتها.

وتنحو تأكيدات المحلّلين العسكريين إلى أنه ليس هناك خطر من أن "تشتعل" مولدوفا وجنوب القوقاز بهذا المعنى. إذ يبدو أن (رئيسة مولدوفا) مايا ساندو ليست مستعدة لمثل هذا التفاقم. ويبدو أن أرمينيا وأذربيجان قد توصلتا بالفعل إلى اتفاق. ومن أجل فتح "جبهة ثانية"، تحتاج واشنطن أحداً ما للقتال ضد روسيا نيابة عنها. أذربيجان لا تريد القتال ضد روسيا، وأرمينيا لا تستطيع ذلك. والأمريكيون لن يقاتلوا. فمن سيقاتل في مولدوفا؟

وكعادة الغرب فهو يعزف على التناقضات الداخلية ليفجر أزماتٍ تخدمه، ويبدو أن الخلاف مع جمهورية بريدنيستروفيه (المعروفة غربياً باسم ترانسنستريا) هو الصاعق المتوقع لحرب أهلية يمكن أن يفجرها الأمريكان، على غرار إقليم الدونباس في أوكرانيا وخاصة أن مولدوفا بلد صغير نسبياً مما يسهل هذه العملية.

وكانت وزارة دفاع مولدوفا قد أعلنت عن مناورات عسكرية مشتركة مع الولايات المتحدة الأمريكية تحت عنوان "أوروكس بارتنر- 2023"، على الأراضي المولدوفية في تشرين الأول الماضي، بالإضافة إلى عمليات الضخ الاستعراضي في الجيش المولدوفي، والعدد غير المسبوق من التدريبات المشتركة مع وحدات من دول الناتو، والتدريب المستمر لجنود الاحتياط.

فيما زعمت رئيسة مولدوفا مايا ساندو في تشرين الأول الماضي أن أجهزتها الأمنية تمكنت من إحباط "الانقلاب" تزعم أن "بريغوجين" خطط له، وكانت قد زعمت في أيار الماضي أن موسكو حاولت في الربيع "الإطاحة" بالحكومة الموالية لأوروبا في إقليم تشيسيناو وإحضار القوات الموالية لروسيا إلى السلطة، على حد وصفها، نفت الخارجية الروسية تصريحات ساندو بأن الجانب الروسي لديه خطة لـ"زعزعة استقرار الوضع" في مولدوفا. وبحسب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، فإن الغرب يعتبر مولدوفا بمثابة "أوكرانيا التالية".

ومن اللافت أن الإدارة الأمريكية بدأت بنشاط في إصلاح قطاعي أمن المعلومات والأمن في مولدوفا. وقبيل الانتخابات المولدوفية في واسط أيلول قدم إلى مولدوفا وفدان أمريكيان في زيارة مرتبطة بالمجالات التي تشرف على الوضع ما قبل الانتخابات، وكان الهدف الحقيقي هو إزالة التواجد الإعلامي الروسي وإنشاء أدوات شرطية للنظام الموالي لأمريكا في كيشيناو.

ورغم التدخل الأمريكي فقد تعرّض حزب "العمل والتضامن" الحاكم في مولدوفا، لخسارة قوية في الانتخابات المحلية الشهر الماضي، وخسر مرشحوه السباق على منصب عمدة 30 مدينة من أصل 36 مدينة.

هذا وتُعارض أوساط هامة في البلاد الانجراف وراء الهوى الأمريكي الذي تمارسه الحكومة الحالية حيث اعتبرت القائمة بأعمال رئيس حزب "النهضة" المعارض في مولدوفا، ناتاليا باراسكا، أن السلطات الحاكمة في البلاد تخاطر بـ"الوضع المحايد" للبلاد في إطار الوضع السياسي العالمي القائم.

تجدر الإشارة إلى أن رئيسة مولدوفا مايا ساندو، قالت في وقت سابق، في مقابلة مع صحيفة "بوليتيكو" إن البلاد يجب أن تتخلى عن الحياد من أجل الانضمام إلى تحالف عسكري كبير. في إشارة إلى جهود غير معلنة للانضمام إلى حلف الناتو.

وكجزء من عمليات زعزعة الأوضاع في مولدوفا تضغط أوساط في الحزب الحاكم من أجل الوحدة مع رومانيا لكن استطلاعاً للرأي في أيلول الماضي أظهر أن 54.5% من سكان مولدوفا يعارضون ذلك.

كما يدفع الغرب مولدوفا للانضمام للاتحاد الأوروبي على غرار دفعه لأوكرانيا في تشابه واضح للسيناريوهين، وكانت المفوضية الأوروبية قد أوصت الشهر الماضي، بأن يبدأ مجلس الاتحاد الأوروبي المفاوضات مع أوكرانيا ومولدوفا بشأن انضمام هذه الدول إلى الاتحاد الأوروبي بشرط استيفاء عدد من الشروط.

لكن السلطات المولودوفية تقدمت بخطوة استباقية في خضوع لضغوطات الاتحاد الأوروبي من خلال الانضمام لعقوبات الاتحاد الأوروبي المفروضة على روسيا، وهو ما اعتبرته موسكو "خطوة عدائية" أخرى من جانب قيادة مولدوفا.

وبعد وصول وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى مقدونيا الشمالية في التاسع والعشرين من الشهر الماضي، للمشاركة في الاجتماع الثلاثين لوزراء خارجية منظمة الأمن والتعاون في أوروبا بدأت إحداثيات عديدة تتغير خصوصاً بعد تصريحه اللافت للنظر حول مولدوفا.

وتعتبر هذه الرحلة إلى مقدونيا الشمالية أوّل زيارة للوزير إلى أوروبا منذ بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، وهو ما يعكس تغيرات في توازنات القوى وطريقة تعامل أوروبا مع روسيا بعدما بدأت تظهر تململها من الضغوط التي تتعرّض لها الدول الأوروبية من الجانب الأمريكي وخاصة ما يتعلّق بتمويل الحرب في أوكرانيا.

إذ وصفَ وزيرُ الخارجية النمساوي ألكسندر شالينبرغ رفضَ الغرب التفاوض مع روسيا بأنه "خطر على الحياة". واعتبر رئيس وزراء مقدونيا الشمالية ديميتار كوفاسيفسكي أنّ حضور الوفد الروسي اجتماع وزراء خارجية منظّمة الأمن والتعاون في أوروبا في سكوبيا يمثل انتصاراً دبلوماسياً للمنظمة.

وقد حذّر لافروف خلال الاجتماع، من أن المنظمة أصبحت على حافة الهاوية، وتابع: "مع الأسف، فقد وصلت المنظمة اليوم إلى حالة يرثى لها، فيما تبدو الآفاق المستقبلية للمنظمة غير واضحة. وفي غضون ما يزيد قليلاً عن عام، سيبلغ عمر وثيقة هلسنكي النهائية 50 عاماً. وبهذا الصدد يؤسفنا القول إن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا تقترب من هذه الذكرى السنوية في حالة يرثى لها".

ولم يستبعد لافروف أنْ تصبح مولدوفا الضحية التالية في الحرب الهجينة التي يشنّها الغرب ضد روسيا. وتابع لافروف أن حلف "الناتو" والاتحاد الأوروبي يقتلان صيغة "5+2"، وشدد على أن إحدى المحاولات المحبطة لحل المشكلات الحادة في القارة الأوروبية على أساس مبدأ منظمة الأمن والتعاون في أوروبا هي مذكرة "كوزاك" ما كان من الممكن، أن "يحل الوضع في مولدوفا على نحو موثوق قبل 20 عاماً".

وتابع الوزير: "بعد ذلك قام حلف (الناتو) والاتحاد الأوروبي في بروكسل بنسف الوثيقة التي تم التوقيع عليها بالفعل بالأحرف الأولى كيشيناو وتيراسبول، والآن يقتلان صيغة (5+2)، وهي آخر ما تبقى من الجهود المشتركة لتسوية أزمة بريدنيستروفيه. والواقع أن مولدوفا محكوم عليها بالفشل. ومقدر لها أن تصبح الضحية التالية في الحرب الهجينة التي يشنها الغرب ضد روسيا".

وتشمل المفاوضات بشأن تسوية نزاع بريدنيستروفيه (ترانسنيستريا) بصيغة "5+2" كيشيناو وتيراسبول كطرفين في النزاع، وروسيا وأوكرانيا ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا كوسطاء، والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة كمراقبين. وقد عقدت الجولة الأخيرة من المفاوضات في براتيسلافا يومي 9-10 تشرين الأول 2019.

وتسعى بريدنيستروفيه، التي يشكل الروس والأوكرانيون 60% من سكانها إلى الانفصال عن مولدوفا حتى قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، خوفاً من أن تنضم مولدوفا إلى رومانيا في أعقاب النزعة القومية. وبعد محاولة فاشلة من قبل السلطات المولدوفية حل المشكلة بالقوة عام 1992، أصبحت بريدنيستروفيه فعلياً منطقة خارجة عن سيطرة كيشيناو.

فهل تنجح المساعي الروسية في إجهاض الجهود الغربية لإشعال فتيل حرب في مولدوفا يكون صاعقها بريدنيستروفيه؟