السودان.. نموذج المصالحة بأعلى التكاليف

هل يمكن القول إن المصالحة بين شطري السودان جاءت تعبيراً عن وعي وطني متقدم؟

السؤال المدون أعلاه يعتبر سؤالاً هزلياً لن يضيف إلا الهذر في البحث عن مسببات مصالحة مابعد الإنفصال، فعندما تقع الكارثة وتتوضح جل خسائرها سيسهل على البعض مقولات التعازي الحارة أو حتى التهنئة بسلامة من بقي حياً رغم كل شيء والكل سيبارك أي جهد لكنس آثار الدمار دون أي بحث جدي عن أسباب الكارثة.

هكذا بدا زعماء السودان في مصالحتهم الوطنية كال»كناسين» الذين يريدون تجميل الواقع المزري بأي شكل كان، فبعد الجولات المكوكية التي فرضتها توازنات الواقع الجديد، أعلن المتحدثان باسم وفدي السودان وجنوب السودان المشاركين في قمة أديس أبابا أن الرئيسين السوداني عمر البشير والجنوب سوداني سلفاكير ميارديت قد توصلا يوم الأربعاء إلى اتفاق جزئي بشأن القضايا العالقة بين البلدين.

جال الإتفاق عدة جولات كان آخرها في قمة أديس أبابا التي توصلت إلى الاتفاق المذكور تنفيذاً لخارطة الطريق المصاغة دولياً تحت ضغوطات مجلس الأمن الذي هدد إلى جانب الإتحاد الأفريقي كل من الدولتين بالعقوبات فيما لو تأخرت المصالحة عن الموعد المحدد في 23 أيلول الفائت و    ذلك تطبيقاً لقرار مجلس الأمن (2046).

تم الإتفاق على إقامة منطقة منزوعة السلاح على الحدود بين البلدين، وهي منطقة عازلة يجب أن ينسحب منها الجيشان وستكون بعمق 10 كلم من كل طرف من الحدود التي لم يتم ترسيمها رسمياً بعد. وعلى الصعيد الإقتصادي، اتفق الطرفان أيضا على استئناف صادرات نفط جنوب السودان، كما تم الإتفاق على إجراء جولة أخرى من المحادثات لحل ماتبقى من القضايا العالقة وهي: منطقة أبيي الغنية بالنفط المتنازع عليها و مناطق حدودية أخرى يطالب بها كلا الطرفين.

بالتمعن في النموذج السوداني سنجد أن هذا النموذج لايختلف عن الكثير من نماذج الأنظمة العربية المتهاوية لا من ناحية الوضع الاقتصادي ولا من ناحية مواقفه السياسية المعلنة من الكثير من القضايا العربية لكن مايميز الوضع في السودان عن كثير من الدول العربية هو ثلاثة عناوين عريضة:

إن القوى الحاكمة في السودان هي قوى إسلامية أي تنتمي إلى مدرسة الإسلام السياسي والتي وصلت إلى الحكم عبر إنقلابات عسكرية.

وجود صراع مسلح في العديد من أجزاء السودان ناتج عن مستوى عال من التدخل الخارجي إضافة إلى سوء توزيع الثروة وفشل عمليات التنمية.

وجود ثروات هامة كالنفط والغاز ومصادر المياه  والأراضي الشاسعة الخصبة والثروة الحيوانية مما يجعل منه هدفاً للغزاة والطامعين.

فشل عمر البشير في إبقاء السودان موحداً وفشل أيضاً في جعل السودان دولة متقدمة بناء على  مستوى المقدرات وفشل في الحفاظ على السودان موحداً ، وشريكه في المصالحة الوطنية «سيلفا كيير» يقاسمه الفشل أيضاً. يقف الآن عمر البشير وسلفا كيير كما يقف زعماء الطوائف في لبنان الذين تسربلهم صور الفشل الإقتصادي والعمالة  «لإسرائيل» إلا أنهم يزهون بكل يوم بإتفاق الطائف الذي صار من المرثيات في كثير من الأحيان.

واجه نظام الحركة الإسلامية في السودان بعد انفصال جنوبه واقعاً كارثياً، فخسر حوالي نصف إنتاجه من النفط بسبب معاركه في «هجليج» وهو مايعني ضغوطاً هائلة على مصادر إنفاقه الحربي، فالجبهات الأربع التي يقاتل عليها السودان في دارفور وولاية جنوب كردفان إضافة إلى ولاية النيل الأزرق وجبهة «هجليج» تكلف السودان ثلثي الموازنة السودانية سنوياً عبر انفاقه الأمني والعسكري المتصاعد.

أذعنت حكومة الشمال وإمعاناً منها في سياسات الإفقار إلى المزيد من الإجراءات الليبرالية ، فاستجابت لوصفة صندوق النقد الدولي الداعية إلى رفع الدعم عن المحروقات وتخفيض سعر العملة الوطنية وزيادة الرسوم الضريبية والجمركية ووصفت هذه الإجراءات من قبل  وزير المالية علي محمود أنها «إجراءات تتخذها دولة مفلسة». لا يعتبر جنوب السودان بعيداً عن هذه المعاناة فهو يواجه بطالة مرعبة تصل وفق بعض التقديرات إلى 90%. أفضى هذا الواقع إلى انطلاق حركة احتجاجية في الشمال لن يكون الجنوب بمنأى عنها لاحقاً على الأرجح ، إلا أن المؤكد أن هذا الواقع المؤلم أجبر طرفي السودان على القبول بإتفاق ما رغم كل مايشوب هكذا نوع من الاتفاقات من عيوب بنيوية.

جاء الإتفاق بعد صراع دامٍ طويل الأمد وتحت وطأة وضع اقتصادي منهار وفي ظل انقسام وطني أدى إلى تقسيم الدولة ، وهو مايعني أن اتفاق المصالحة هذا جاء وفقاً لمفهوم «الكلفة العالية»، حيث تقوم القوى الفاسدة في النظام القائم إضافة إلى رعاتها في الغرب بسلب أي شعب جميع مقوماته الدافعة لتغيير وطني ديمقراطي واقتصادي، وتمثل هذه الكلفة دافعاً جارفاً تجاه أي مصالحة تلوح بالأفق علّها تنقذ ماتبقى من البلاد.

إن الحقيقة التي يحتاج السودانيون إلى مواجهتها في هذه اللحظة هي أن هذا الإتفاق صيغ على أنقاض مقومات الاستقلال السودانية سواء الإقتصادية أو الوطنية بعد أن دمّرها نظام الحركة الإسلامية من جهة ومجموعات الحركة الشعبية بزعامة سيلفاكيير من جهة أخرى، وهو ما أوصل إلى اتفاق يكون فيه وزن إرادة الشعب السوداني أقل مايمكن مقابل وزن طاغي لقوى الغرب في هذا الإتفاق.

لاشك أن هذا السياق الذي بُلور بمساع صينية مقابل ضغوط الترويكة الغربية  (الولايات المتحدة- بريطانيا-النرويج)  يعد تجلياً جديداً لميزان القوى الدولي المتغير و الذي يصعب من الهيمنة الأميركية الشاملة على كل المناطق الغنية بالثروات ، لكن هذا التوازن أيضاً غير قادر على حسم اتجاهات التغيير في البناء السياسي والاقتصادي للدول المنهوبة، وهو ماينتظر تحولاً في المزاج الشعبي لوعي ضرورات الوحدة من  الشعوب المتنازعة ضد ناهبيها من الغرب أو أدواتهم من الحكومات المهيمنة التي تشكل سياسياتها الاقتصادية وحتى الديمقراطية والوطنية جزءاً من أدوات الهيمنة الغربية.