مقابلة بوتين وكارلسون... ارتدادات منتظرة في الداخل الأمريكي

مقابلة بوتين وكارلسون... ارتدادات منتظرة في الداخل الأمريكي

ضجّ العالم الغربي، ومعه العالم أجمع، بالمقابلة التي أجراها الصحفي الأمريكي تاكر كارلسون مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوم الخميس 9 شباط، والتي استمرت لمدة ساعتين، وتحدث خلالها بوتين بشكلٍ مستفيض عن الملف الأوكراني والموقف الروسي والرؤية الروسية للمجريات والأحداث، فضلاً عن مسائل أخرى... ولكن ما سرّ هذا الصدى الكبير ولِمَ الآن؟

تفيد وسائل الإعلام، ومختلف القوى السياسية الغربية، وكارلسون، والقيادة الروسية، أن المقابلة المذكورة قد جرت بقرار من كارلسون ورغبته وبتحضيرٍ منه، وتهدف لإيصال صوت موسكو ونظرتها للأمور إلى داخل المجتمع الأمريكي ليطّلع عليها.
ومما تبيّن لاحقاً، أن الجهة الوحيدة الغاضبة فعلاً من المقابلة، بدءاً من فكرة إجرائها وحتى توقيتها، مروراً بكل ما تضمنتها، هي الإدارة الأمريكية الحالية بقيادة الديمقراطيين من حيث الشكل، لكن بمعنى أكثر دقة: أحد طرفي الانقسام الأمريكي، الداعي لتوسيع رقعة الحرب والمضي بها نحو الحد الأقصى الممكن دفاعاً عن المصالح الأمريكية في الخارج والهيمنة الأمريكية.
تُبيّن الأشهر الأخيرة وجود انقسام عميق داخل النخبة الأمريكية الحاكمة حيال الموقف من أوكرانيا وكيفية التعامل معها، لنشهد مسلسلاً طويلاً لا يزال مستمراً داخل الكونغرس الأمريكي حول مسألة تمويل القوات الأوكرانية ودعمها عسكرياً ومادياً وسياسياً.

قرار فردي؟

مما لا شكّ فيه، أنّ إجراء مقابلة على هذا المستوى، وبهذا الشكل، وفي توقيتٍ بالغ الحساسية ومع الصدى المرافق لها والتأثير المعروف مسبقاً، ليس قراراً فردياً اتخذه كارلسون، خاصة وأنه يُعرَف عن الأخير أنه جمهوري ومحافظ بالنسبة للخارطة السياسية الأمريكية... ومثل هذا الأمر تدركه القيادتان الروسية والأمريكية... لا يعني ذلك أن كارلسون ليس صاحب قرار مبدئي، بل يعني تحديداً أن هذا الأمر لم يتوقف أو يجرِ عند رغبته وحدها، حيث قال صراحةً خلال وجوده في القمة العالمية للحكومات بدبي يوم الإثنين الماضي: «لقد كنت أحاول الحصول على هذه المقابلة لمدة ثلاث سنوات، وقد منعتني حكومة الولايات المتحدة من القيام بذلك من خلال التجسس على اتصالاتي وتسريبها إلى صحيفة نيويورك تايمز». أي أنه ليس قراره وحده، وبنفس الوقت، لا يعني إجراء المقابلة الآن أن «حكومة الولايات المتحدة» الحالية هي من منحته الضوء الأخضر الآن، بل بالتحديد أحد طرفي الانقسام الأمريكي، والذي يرى في ذلك مصلحةً له.

الصوت الروسي وتأثيراته

بلغ عدد مشاهدات المقابلة على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي أكثر من مليار، وتداولتها العديد من الصحف الغربية والأمريكية، سواء بشكل مجتزأ أو باقتباسات أو إشارات إليها، وهو حدث ضخمٌ حقاً بعد كل التجييش الغربي على روسيا والتعتيم على صوتها وتزيف أسباب الحرب الأوكرانية، أو تزييف أهداف موسكو من عمليتها العسكرية فيها، وخصوصاً، أن ذلك كلّه يجري في تلك اللحظة التي يشعر فيها المواطن الأمريكي أن ما ينتجه من مال ويدفعه من ضرائب يذهب لحرب بعيدة، لا مصلحة له فيها، ويشاهد «حليفه» يخسرها، وبعام هو عام الانتخابات الأمريكية التي تشهد صراعاً واستقطاباً غير مسبوق.
لا تزال تأثيرات المقابلة داخل المجتمع الغربي ككل والأمريكي خاصة في بداياتها، وكذلك الأمر بالنسبة للقوى السياسية، إلا أنّ الأثر الأكبر الذي ظهر حتى الآن هو كسر الجدار الذي وضعته الحكومة الأمريكية أمام روسيا إعلامياً، وسيتبع ذلك مقابلات ووصول أوسع للموقف الروسي ولإعلامه وتحليله إلى داخل الولايات المتحدة الأمريكية خاصةً... فعلى أقل تقدير، فإنّ إيضاح أن روسيا لم تسعَ بأي وقت إلى «غزو» أوكرانياً، فضلاً عن «استعمارها» لها، وتبيان الوقائع والأحداث التاريخية والدور الغربي فيها، وصولاً إلى ما جرى بالعملية العسكرية الروسية وأهدافها، وبلحظةٍ كان الديمقراطيون يقاتلون بأسنانهم للحصول على موافقة الكونغرس لتمويل النظام الأوكراني، مقابل موقف الجمهوريين المناقض، كلّ ذلك يعني رصيداً أكبر للجمهوريين داخل البلاد لا على مستوى الموقف من روسيا وأوكرانيا فحسب، وإنما على مستوى «المصداقية» عموماً تجاه «مصلحة» المواطن الأمريكي، كما يرونها.

تحسين صورة روسيا ككل

أكثر من ذلك، وتأكيداً على أن مقابلة كارلسون تُعد قراراً سياسياً جماعياً من داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، سعى في حديثه إلى تحسين صورة روسيا الإعلامية داخل المجتمع الأمريكي، وفقاً للغتهم وأسلوبهم الذي يعرفه بنفسه جيداً: حيث أبدى مراراً رأيه بمصداقية الرئيس الروسي، وعبّر عن شهادته بثقافته الواسعة، ولاحقاً، عبّر عن تفاجئه من جمال مدينة موسكو معتبراً إياها أجمل وأنظف وأكثر أماناً من المدن الأمريكية كافة! ثم جاء حديثه عن المتاجر والمواد الموجودة فيها «بجودة عالية» رغم العقوبات والدعاية الأمريكية عن معاناة الشعب الروسي وخسارته. وكل ذلك حدث في لحظة كان فيها كارلسون تحت الأضواء في الولايات المتحدة.
أي أن كارلسون - كقرار السياسي وليس هو بشخصه - لم يفتح الباب واسعاً أمام إيصال حقيقة الموقف الروسي إلى داخل الولايات المتحدة الأمريكية فحسب، بل وفنّد وتحدى العديد من الدعايات الغربية حول بوتين وحول روسيا والأوضاع بداخلها، وحول أثر العقوبات الغربية التي يتبجح الأمريكيون والديمقراطيون بها تحديداً. وباتت المقارنات «الشخصية» بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأمريكي جو بايدن «كرئيس ديمقراطي خاصة، وليس كرئيس أمريكي عموماً»، واحدة من أكثر المسائل تداولاً.

مصلحة روسيا من المقابلة؟

تدرك الحكومة الروسية هذا الأمر، بيد أن ما يهمها منه، هو استمرار توضيح مواقفها ورؤيتها وإبراز الحقيقة ليس للأمريكيين، وإنما لأي كان عموماً، ومتى ما سنحت الفرصة بذلك. لكن من جهة ثانية يبدو أن موسكو قدّرت أن هذه المقابلة وفي هذه اللحظة بالذات سيكون لها أثر كبير داخل الولايات المتحدة، لا لكونها مناظرة لإثبات وجهة نظر فحسب، بل كون هذه المقابلة يمكن أن تؤدي دوراً في الصراع الداخلي، فحالة التخبط الحالية في الولايات المتحدة تعتبر حالة مثالية بالنسبة لخصومها، فالموقف من روسيا والحرب في أوكرانيا داخل الولايات المتحدة يعني في العمق موقفاً من مجمل الاستراتيجية الأمريكية في صياغة دورها الخارجي.

كل الوسائل في خدمة الصراع

المستويات التي وصل إليها الصراع في الولايات المتحدة باتت تفرض على المتخاصمين استخدام كل الوسائل الممكنة، والأكثر من ذلك أن كل مفصل جديد في الحياة السياسية يمكن أن يتحول إلى نقطة خلاف. من هذه الزاوية تبدو المقابلة كأداة من أدوات الصراع لا يمكن فصلها عن كل ما يجري في الداخل الأمريكي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1162
آخر تعديل على الإثنين, 19 شباط/فبراير 2024 12:38