الشرق الأوسط وقنبلة أمريكا الموقوتة

الشرق الأوسط وقنبلة أمريكا الموقوتة

تثبّت التطورات الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط مجموعة أساسية من الاستنتاجات السابقة حول طبيعة الأهداف الأمريكية في منطقتنا، ومع ذلك تحتاج هذه الأهداف إلى مراجعة دورية، فعندما وُضعت كانت حتماً جزءاً من استراتيجية عالمية شاملة، وتحقيقها أو الفشل في ذلك يعني بالضرورة إجبار الولايات المتحدة على التعامل مع معطيات جديدة بقواعد جديدة، فكيف يمكن أن ينعكس كلُّ ذلك على المستقبل، وتحديداً في هذا الجزء الحيوي من العالم؟

ربما يرتبط السؤال الأصعب في ذلك كلّه بطبيعة المحرّك الأمريكي، ما هي تلك المحدّدات التي تتحرك واشنطن على أساسها؟ والجواب عن هذا غالباً ما يَضيع في زحمة الأحداث والاشتباكات الصغيرة والمتوسطة القائمة حالياً في المنطقة والعالم.

أزمة المركز الرأسمالي

تحوّلت الحرب بالتجربة إلى أداة استخدمتها الرأسمالية للخروج المؤقت من أزماتها السابقة، وأثبت التاريخ أنَّ كلَّ دورةٍ جديدةٍ لهذه الأزمة كانت «تنفّسها» ولكنّها تعمّقها أكثر، وبالتالي تُحمّل البشرية تكاليف أكبر للخروج منها، لذلك تظهر الأزمة الحالية بوصفها تهديداً وجودياً للمركز الإمبريالي، ما يعني أن الآمال الأمريكية للخروج منها هي مسألة مصيرية، ويرتبط مستقبل أمريكا الإمبريالية بمدى نجاح أصحاب القرار الحقيقيين في واشنطن في تنفيذ استراتيجيتهم. أي هناك قنبلة موقوتة على وشك الإنفجار فعلاً! وتحاول الولايات المتحدة استباقها، وهو ما يعقد المشهد ويجعل الأهداف الصعبة الماثلة أمامهم محدودة الصلاحية، من هذه الزاوية تحديداً يبدو الشرق الأوسط محوراً مهماً في هذه المعادلة لا ينبغي إهماله أمريكياً!
لكن ماذا تريدُ واشنطن من الشرق الأوسط تحديداً؟ فعندما نقول: إنَّ الهدف هو توسيع دائرة الحريق إلى أكبر حدٍّ ممكن، فذلك يوضّحُ الإطار العام لا أكثر، فبالنسبة للولايات المتحدة المطلوب أولاً هو التحكّمُ بثروات المنطقة، وتحديداً تثبيت تسعيرها بالدولار الأمريكي، والأكثر من ذلك التحكّم بالفائض المالي الناتج عن بيع هذه الثروات في السوق العالمية، هذا ما يضمن تثبيت الدولار الأمريكي في موقع متقدم، ويسمح في سدِّ العجز الهائل، وبالتالي تأمين تمويل مستقر للاستراتيجية الأمريكية دون أن تتحول هذه التكاليف إلى عامل اضطرابٍ داخلي. والمطلوب أيضاً، السيطرة على أبواب المنطقة والجسور التي تربطها بالعالم، أي إعاقة قيام أي روابط مستقرة بين آسيا وأوروبا من جهة، وآسيا وإفريقيا من جهة ثانية، وأيضاً ضرب هذه الروابط البينية في آسيا نفسها من جهة ثالثة، ما يسمح بدرجة أعلى من الهيمنة على الاقتصاد والتجارة العالميتين، وأيضاً التأثير والتحكم بالقرارات السيادية في كثير من دول العالم التي ترتبط مصالحها في هذه المنطقة، وتحديداً روسيا والصين والدول أوروبا الغربية.
كل ما سبق يحتاج مجموعة من الشروط الأساسية، فيجب بالنسبة للولايات المتحدة ضربُ أيِّ مشروعٍ وطنيٍ حقيقيٍ في المنطقة، لأنَّ ذلك من شأنه أن يصطدم بالسلوك الأمريكي، وسياسات النهب الملازمة له، فلا يمكن فعلياً الحديث عن أيِّ تنمية اليوم دون القطع مع أدوات النهب الغربية، ما يعني أن تضع دول المنطقة يدها على ثرواتها ومواردها. لتحقيق ذلك كان لقيام المشروع الصهيوني هنا تحديداً هدفٌ أساسيٌ، إذ يحقق وجوده حاجزاً جغرافياً معيقاً لنشوء وتطور العلاقات الحيوية في المنطقة، ومن جهة ثانية يمكن لهذا المشروع أن يتحوّل إلى رأس حربة في الاشتباك والتوتير والاستنزاف، ما مكّن الولايات المتحدة من تحويل الأراضي المحتلة إلى قاعدة أساسية في تنفيذ مشروع الفوضى.

ما الذي يهدد ذلك كله؟

مع تطور الصراع تبيّن أن خصوم الولايات المتحدة على الساحة الدولية أصبحوا قادرين أكثر على التأثير في مجرى الأحداث هنا، ورغم أن الفوضى كانت محققة إلى حد كبير، إلا أن مراكز أساسية في الإقليم استطاعت حتى الآن الحفاظ على درجة مقبولة من الاستقرار، والحديث ينطبق بالدرجة الأولى على إيران وتركيا ثم السعودية ثم مصر، وتحوّل الحفاظ على هذا الاستقرار النسبي إلى هدف لا بالنسبة للدول المعنية فقط، بل بالنسبة لروسيا والصين أيضاً، اللتان تعملان على تفكيك صواعق التفجير واحتوائها قدر الإمكان بهدف إخماد أكبر قدر من الحرائق التي تحاصرهما، ما يعني أن مشروع الفوضى الأمريكي - ورغم المآسي التي حملها في العقود الماضية - لم يصل حتى اللحظة إلى المستوى النوعي المطلوب، وهو ما زاد الضغط على المركز المأزوم من جهة، وهدد في الوقت نفسه الكيان الصهيوني، الذي وجد نفسه في مناخ عام غير ملائم قائم على سعي من قبل الدول الأساسية في الإقليم إلى تطوير علاقاتها الثنائية، وتطويق بؤر التوتر قدر المستطاع، ما سيضع حل القضية الفلسطينية على جدول الحل آجلاً أم عاجلاً، إذ لا يمكن حماية المنطقة فعلياً دون تفكيك المشروع الصهيوني.
بالعودة إلى القنبلة الموقوتة التي تحدثنا عنها، تجد الولايات المتحدة نفسها اليوم أمام واقع مركّب، فهي مضطرة للاستعداد لصراعات في مناطق حيوية أخرى، وتحديداً على حدود روسيا والصين وسريعاً، وفي الوقت نفسه لا يمكن لها الدخول في مواجهات من هذا النمط بظهرٍ مكشوف، فصراع بهذا الحجم يتطلب تأمين كل ما يلزم، والذي عرض باقتضاب في القسم الأول من هذا المقال، ما يعني حرمان الولايات المتحدة من اختيار شروط القتال وساحته الأساسية، ويزيد بالتالي من احتمال سقوط أمريكا الإمبريالية في هذا النِزال.
الشهور الماضية كانت قاسية، ولا يمكن إنكار هذا، فالعدوان الصهيوني المدعوم أمريكياً لا يزال مستمراً، ومع مرور جولاتٍ عديدةٍ من المفاوضات بهدف وقف إطلاق النار، إلا أنّها لم تصل إلى أي نتيجة، ما بات يوحي بأن تحقيق ذلك - إن حصل - لن يكون عبر هذا المسار. الولايات المتحدة لا ترى مصلحة في خفض التوتر، بل على العكس، فهي تحاول استثمار اللحظة الحالية إلى حدودها القصوى.
هذا لا يعني أنّها لا تتحمل خسائر، بل على العكس! فهي تخوض صراعاً متشّعباً يتطلب حضوراً عسكرياً جدياً ودعماً مالياً وسياسياً كبيراً، ولكن الصراع في هذه المنطقة بالتحديد ليس هامشياً، فالولايات المتحدة تحاول قدر المستطاع أن تنخرط في أقل قدر، لكنّها تلتزم بالحد الأدنى الضروري. طاقاتها في ظل الظرف الدولي الحالي محدودة، ما يجعل إمكانية ضرب المشروع الأمريكي اليوم أكبر من أيّ وقتٍ سبق، وخصوصاً أن هناك قوى دولية تأمل أن تخرج واشنطن بأكبر خسارة سياسية ممكنة، ربما ينتج عنها إنهاء الاحتكار الأمريكي للملف الفلسطيني، ويفسح المجال لإمكانية حلّه.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1171
آخر تعديل على الجمعة, 26 نيسان/أبريل 2024 21:57