لطبقة الوسطى..  البحثُ عن (الحُلُم الضائع)!

لطبقة الوسطى.. البحثُ عن (الحُلُم الضائع)!

يكثر الحديث في الأوساط الاقتصادية، والسياسية، بل وحتى الثقافية والفنية في سورية، عن أن زوال الطبقة الوسطى السورية هو أزمة البلاد الاقتصادية-الاجتماعية التي تستوجب الحل، عبر تحسين معيشتها، أو عبر توسيع التعليم، أو عبر مساندة الدولة، أو غيرها من الحلول..

لكن، ما هي بالفعل الطبقة الوسطى؟! وهل هي فعلاً نسبة 60-80% من السوريين قبل الأزمة؟! وهل (أذابتها) الأزمة، أم أن (ذوبانها) كان موضوعياً في ظل انتعاش النخبة القليلة العليا؟! وما الحل..؟

عشتار محمود

لا بد من تحديد الطبقة الوسطى، التي يتم البحث عنها، لإحيائها، والتحديد وفق معيارين، الأول: هو موقع هذه الطبقة في عملية الإنتاج، أي مَلكيتها لوسائل الإنتاج، والثاني، هو: موقعها من توزيع الدخل، أي الحصة التي تعود إليها من الدخل الإجمالي المنتج.

من لا يملكون شيئاً هم الأغلبية!

تختلف التعريفات، ولكن أنضجها، يستند إلى القاعدة الموضوعية في تعريف الطبقة، أي بموقعها من مَلكية وسائل الإنتاج. فهناك من يملك ولا يعمل، وهناك من يعمل لدى المالك، وهناك من يقع بينهما، أي: يملك رأس مال يوظفه، ولكنه في الوقت ذاته يساهم في العمل به بنفسه، ويشغّل الآخرين. وهؤلاء من نسميهم البرجوازية الصغيرة، أو الطبقة المتوسطة في تسميات أخرى. وغالباً ما يكون رأس مال هؤلاء صغيراً، وكذلك حجم منشآتهم، أو ملكياتهم. 

وعملياً الفلاحون في سورية هم شريحة البرجوازية الصغيرة الأكبر، ويليهم الحرفيون أصحاب الورش الصناعية الصغيرة، التي تضم أقل من 9 عمال، ومن ثم شريحة واسعة من أصحاب الأعمال الخدمية الصغيرة، سواء في التجارة أو الخدمات المتنوعة ومجموع المهن التي يملك صاحبها عدته ومكان عمله، و«شغيلته»، ويقوم بأعماله بنفسه، مساهماً في إنتاج دخله، حتى لو كان هذا طبيباً..

وكل ما هو عكس ذلك، لا يصنف في عداد طبقة البرجوازية الصغيرة، بل هو عملياً إما صاحب أجر، أي يعمل لدى الآخرين، سواء كان من أهم المهندسين العاملين في الشركات الكبرى، أو كان عاملاً صناعياً، أو زراعياً أو غيرها. وإما أن يكون صاحب عمل يحصل على الربح من ملكية منشأته ومن تشغيل الآخرين لإنتاج دخلها.

وبناءً على مفهوم الطبقة من موقع ملكيتها لوسائل الإنتاج، فإن الإحصاءات السورية كانت تصنف في عام 2010 قوى العمل وفق التالي: صاحب عمل- يعمل لحسابه- يعمل بأجر. 

هذا التصنيف في عام 2010 كان يقول: بأن تعداد المشتغلين ممن يعملون لحسابهم في سورية، أي من الطبقة المتوسطة هو: 1.4 مليون شخص وبنسبة 29% من مجموع المشتغلين. بينما العاملون بأجر، أي الطبقة العاملة السورية تعدادها مع العاطلين عن العمل:  3.6 مليون، وبنسبة 73% من المشتغلين، بينما أصحاب الأعمال نسبتهم 4% من المشتغلين. أما إذا ما أخذنا نسبة وسطي الأسرة والإعالة في سورية البالغ 4 إلى واحد تقريباً في عام 2010، فإن تعداد العاملين بأجر وأسرهم في سورية، يبلغ قرابة 18 مليون، ونسبة: 83% تقريباً من سكان سورية في عام 2010. أي أن العاملين بأجر هم الغالبية في سورية، كما في كل دولة عبر العالم.

من لا ينفقون 

حاجاتهم الضرورية هم الأغلبية!

وينشأ التباس في تعريف الطبقة الوسطى، حيث لا يتم اعتماد التصنيف الطبقي السابق، بل يتم استخدام تصنيف آخر، بناء على الإنفاق، أي على الحصة الموزعة من الدخل، لتنقسم هنا شرائح المجتمع إلى فئات بحسب حجم الدخل الموزع لها، والذي يتحدد بالتأكيد على أساس ملكيتها لوسائل الإنتاج، ولكن هذا ليس المحدد الوحيد، حيث تساهم عوامل عديدة في زيادة التوزيع للبعض دوناً عن الآخرين، ومن أهم العوامل هو: دور الدولة على سبيل المثال.

 وبناءً على هذا يميل البعض للقول: أن الطبقة الوسطى في سورية كانت تشكل نسبة بين 60-80% من السوريين قبل الأزمة! فما هو مستوى الدخل الذي نستطيع القول بأنه يؤمن مستوى حياة متوسطة للأسرة؟! لنقول بأن هذه الأسرة (مستورة) ودخلها متوسط، وأن أسرة أخرى فقيرة. غالباً ما يعتمد خط الفقر الدولي لهذه المسألة.. ولكن الاعتماد على ضرورات المعيشة السورية المحسوبة محلياً، قد يكون أدق في تحديد وضع الأسرة المعاشي الفعلي!

فبحسب البيانات الرسمية، والمسح الشامل لدخل ونفقات الأسرة في عام 2009، فإن حاجة الإنفاق الوسطي الشهري للأسرة السورية تبلغ: 30 ألف ليرة كوسطي في سورية كلها، لتستطيع الأسرة أن تؤمن حاجات معيشتها الأساسية المصنفة 8 حاجات.

ونستطيع القول: أن كل أسرة كانت تنفق ما هو أقل من 30 ألف ليرة شهرياً، لم تكن متوسطة الحال، بل كانت تحصل على ما يسد حاجاتها فقط، ولا يكفي لتوسيع الإنفاق إلى مجالات التطور والتنمية الأخرى.

ووفق بيانات توزع الأسر على فئات الإنفاق الشهري، يتبين بأن نسبة 64% تقريباً من الأسر السورية تنفق أقل من 30 ألف ليرة شهرياً، وبالتالي فإن هؤلاء بمجموعهم ليسوا طبقة وسطى، وإلا فما الذي نستطيع أن نسميه الفقر العام، إن لم يكن محدداً على أساس العيش على حافة تأمين الحاجات الضرورية؟!

وعموماً، الغالبية العظمى من أصحاب الأجر، أي نسبة 83% من السكان تقريباً، الذين كان دخلهم الوسطي 11 ألف ليرة قبل الأزمة، لم يكونوا في عداد الطبقة المتوسطة، لأنهم لا يحصلون إلا على أجر يعادل ثلث الحاجة الضرورية!..

أي أن فقراء الحال والدخل، وليسو متوسطيه هم الغالبية أيضاً وفق مقياس الإنفاق والحصة من الدخل!

الطبقة الوسطى السورية لم تنتظر الأزمة لتضمحل! بل كانت متلاشية على عتبات عام 2010، عندما تراجعت قدرات أصحاب الأعمال الصغيرة سواء المزارعين، أو الحرفيين وأصحاب الورش على مواجهة مد السوق العالمية، الذي شُرّعت له الأبواب تماماً خلال العقد السابق للأزمة، وعندما أطلق العنان لقوى السوق الكبرى، على ابتلاع صغار الأعمال وجمع الغلة من حصتهم في الناتج السوري السنوي، بعد أن أصبح أغنى 15% في سورية ينفقون، أي، يملكون عملياً ما يقارب 80% من الناتج.. أما لمن يصنف الطبقة الوسطى كخليط من متوسطي الحال أياً كان موقعهم الطبقي عمالاً أم أصحاب أعمال وخدمات، فإن الطبقة الوسطى بهذا المفهوم أيضاً كانت متلاشية، لأن قرابة 83% من السوريين أصحاب الأجور كانوا يستهلكون أقل من حاجاتهم الضرورية.

 

 

في سورية كما في غيرها يزداد الاستقطاب الاقتصادي، وتتمركز الثروة، وبالتالي الدخل لدى القلة القليلة، كلما توسعت قدرات السوق، وزادت حريتها، وسلطتها المطلقة. لأن قوانين السوق كما يعلم الاقتصاديين كلهم، تؤدي بالضرورة إلى ابتلاع الكبير للصغير، واستلاب المزيد والمزيد من الدخل والتنمية لصالح نخبة المالكين.. لذلك فإن من يريد أن يحيي قدرات السوريين، عليه أن ينادي لا بإحياء الطبقة الوسطى وحدها، بل بضرورة إعادة توزيع الثروة لصالح الأجور أولاً، لأن أصحاب الأجر هم الأغلبية، وتحديداً بعد أن أفقدت الأزمة والسياسات الاقتصادية أصحاب الأعمال الصغيرة والمزارعين، منشآتهم وقدرتهم على الاستمرار في مواجهة ربح أمراء الحرب، وأن ينادي ثانياً: بإيقاف الآلية التي تؤدي إلى انتقال الثروة والدخل إلى الأقوى اقتصادياً، أي أن يبحث عن طرق لجم قوانين السوق، والتحكم بها، وهذا لا يكون إلا بتغييرات في الأوزان الاقتصادية، عبر سلسلة إجراءات، ولكن في جوهرها، إعطاء من لا يملكون وسائل إنتاج، حقهم في الثروة الاجتماعية عبر الملكية العامة، أي، عبر دور جهاز الدولة الاقتصادي، ولكن المحميّ بدفاع الأغلبية، السياسي الديمقراطي عن حقهم العام، ومنع استلابه كما جرى ويجري الآن..

توزيع الثروة، والتحكم بالسوق، وتفعيل دور جهاز الدولة الاقتصادي للمصلحة العامة، نقاط رئيسة، كفيلة بجعل السوريين كلهم ينتقلون سوياً إلى جني ثمرة حقهم في عملهم وموارد بلادهم، دون تمييز بين طبقة وسطى وأخرى أدنى منها عليها باللحاق!..

معلومات إضافية

العدد رقم:
794