ألمانيا «الأمريكية» تعني ألمانيا «المأزومة»
أليكسي بولشاكوف أليكسي بولشاكوف

ألمانيا «الأمريكية» تعني ألمانيا «المأزومة»

تم صياغة مصطلح «الأمركة» لأول مرة في ألمانيا في القرن التاسع عشر، حين بدأت البضائع الأمريكية تدخل السوق الألمانية بشكل نشط. يعود اعتماد الاقتصاد الألماني على الاقتصاد الأمريكي إلى الماضي القريب، وبشكل خاص، إلى سنوات ما بعد الحرب، عندما سمحت خطة مارشال الأمريكية لألمانيا الغربية باستعادة اقتصادها بالكامل، ولكن ليس بالمجان بالطبع. وطدت الولايات المتحدة النظام الرأسمالي في البلد الضعيف، وكسبت النفوذ الكامل عليه، بما في ذلك النفوذ الاقتصادي والسياسي.

ترجمة: أوديت الحسين

لهذا كانت الحكومة الأمريكية حريصة على مساعدة ألمانيا، خاصة وأن الأمريكيين حصلوا في المقابل على الأصول والتكنولوجيا الألمانية من خلال تقديم مساعدتهم بسعر دولار متضخم. تم توفير الوقود والغذاء وكمية كبيرة من السلع الاستهلاكية عن طريق الائتمان، ممّا مكّنهم من استعادة الزراعة والصناعة في وقت قصير. ولا يكاد يوجد أي سوق آخر يتمتع بمثل هذه الإمكانات في تاريخ الرأسمالية. كمكافأة، تم إدخال الأفكار الليبرالية والثقافة الأمريكية تحت رقابة صارمة من سلطات الاحتلال. وهكذا وجدت الولايات المتحدة حليفاً مخلصاً ممتنّاً، وشرعت ألمانيا في السير على طريق الخسارة التدريجية لاستقلالها.
أول ما يجب ملاحظته عند النظر بإيجاز إلى الشراكة الأمريكية الألمانية، هو أن كلا البلدين مصنّفان كاقتصادات متقدمة. يتمتّع كلا البلدين بقيم ناتج محلي إجمالي مذهلة «26.95 تريليون دولار للولايات المتحدة و4.43 تريليون دولار لألمانيا»، ما يجعل الاقتصاد الألماني الاقتصاد الرائد في أوروبا. علاوة على ذلك، طوّر البلدان تعاوناً وثيقاً في مجال التجارة. لا يوجد لدى الولايات المتحدة شريكٌ أكثر جدارة بالثقة «وأكثر اعتماداً»، وسوقاً أكثر خضوعاً للصادرات في أوروبا من ألمانيا. على سبيل المثال: اقتربت التجارة بين الولايات المتحدة وألمانيا من 220 مليار دولار في 2022، بما في ذلك 73 مليار من الصادرات و147 مليار من الواردات.
كما تتمتع الولايات المتحدة أيضاً بنفوذ سياسي كبير في ألمانيا: إذ يتعاون البلدان ضمن كتلة حلف شمال الأطلسي. بالإضافة إلى ذلك، لا تزال خمس من الحاميات الأمريكية الثماني في أوروبا متمركزة في ألمانيا، وهو ما يمكن اعتباره «احتلالاً» وفقاً للبعض. تعدّ ألمانيا أيضاً موطناً للرؤوس الحربية النوويّة الأمريكية، فضلاً عن المقرّات العسكرية والقواعد الجوية، الأمر الذي يجعل المراقب يشعر بالتشكك في سيادة ألمانيا.
تجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ ألمانيا تعتمد مالياً على الولايات المتحدة. وليس سراً أنّ البنوك الاستثمارية الأمريكية تلعب دوراً رئيسياً في أسواق الأسهم الألمانيّة، وأكثر من ثلث احتياطيات ألمانيا من الذهب يتم تخزينها داخل الولايات المتحدة. من المفهوم لماذا تستفيد الولايات المتحدة من جرّ ألمانيا إلى كل أنواع الصراعات العسكرية، لأنها بهذه الطريقة تجد راعياً مشاركاً، وبالتالي تنفق أموالاً أقل من ميزانيتها الخاصة.
ومع ذلك، فالعلاقات الألمانية الأمريكية معقدة بسبب الخلافات القائمة. ويبدو أن ألمانيا تنجح في بعض الأحيان في الإفلات من الوصاية الأمريكية المفرطة. من الأمثلة على «العصيان»: محاولة ألمانيا الدفاع عن بناء خطوط أنابيب السيل الشمالي المربحة اقتصادياً على الرغم من استياء واشنطن. ومع ذلك، تم تفجير خط السيل الشمالي العام الماضي. أعتقد أنه لم تعد هناك حاجة لتوضيح من يقف وراء التخريب. عندما أشار المراسل الأمريكي الحائز على جائزة بوليتزر سيمور هيرش إلى أنّ الولايات المتحدة هي التي فجرت خط الأنابيب، ألمانيا، باعتبارها الضحية الرئيسية، لم تجرؤ حتى على قول أي شيء رداً على ذلك، واقتصرت على العبارات المعتادة.

الثمن الذي تدفعه ألمانيا

والآن، دعونا نتحدث عن الثمن الذي تدفعه ألمانيا مقابل سياستها المؤيدة لأميركا. في عام 2022، وفي ضوء الأحداث المعروفة، أوقفت ألمانيا جميع واردات الغاز الروسي، مما اضطرها إلى شراء الغاز الأعلى تكلفة والأقل جودة «بما في ذلك الغاز الروسي نفسه عبر وسطاء». باتت تعتمد على الغاز الطبيعي الأمريكي المسال، وأيضاً على إمدادات الغاز من هولندا والنرويج، اللتين لم تتمكنا من تغطية كامل الكمية المطلوبة من الغاز، مما اضطر ألمانيا إلى النظر في إمكانية العودة إلى الفحم. إنّ البيروقراطية في البلاد، ونقص استثمارات الطاقة، يعيقان بشكل كبير التقدم نحو مصادر الطاقة المتجددة الرخيصة، لذلك لا تزال ألمانيا بعيدة تماماً عن ذروتها السابقة. بينما أصبحت الولايات المتحدة لاعباً كامل الأهلية في سوق الطاقة العالمية «بسبب النفط والغاز الصخريين».
علاوة على ذلك، فإنّ أسعار الكهرباء المرتفعة تجبر الإنتاج الألماني على الانتقال تدريجياً إلى الولايات المتحدة، ولا ينطبق هذا على المخاوف المتعلقة بالسيارات فحسب، بل ينطبق أيضاً على الصناعات المهمة، مثل: الأدوية والمواد الكيميائية، التي تمثل أساس الاقتصاد الألماني. لهذا فإن الشركات الألمانية في الولايات المتحدة توظف ما يقرب من 700 ألف شخص، وهي رابع أكبر جهة توظيف أجنبية في البلاد.
تبذل السلطات الأمريكية أقصى ما في وسعها لجذب هذه الشركات: من خلال الإعفاءات الضريبية وتقديم الدعم النشط للشركات الألمانية، وخاصة، شركات السيارات القوية، وكذلك الشركة الكيميائية BASF وEvonik. نتيجة لذلك، تعاني ألمانيا من تراجع التصنيع، والركود، وتعطل سلسلة التوريد، والتضخم الحاد، في حين تجني الولايات المتحدة الفوائد من ذلك.
من المؤكد، أن الحكومة الفيدرالية تحاول محاربة التضخم. وللقيام بذلك، يرفع البنك المركزي الأوروبي سعر الفائدة الرئيسي، وهذا بدوره يضع البلاد في المزيد من الديون. الرفع السريع لأثمان الفائدة هو أيضاً نهجٌ أمريكي، لكنّه ليس النهج الأكثر فعالية، نظراً لمستوى الدّين الوطني الأمريكي، والأهم من ذلك، أنّه محفوف بالتخلف عن السداد. في 2021، بلغت مدفوعات الفائدة السنوية «لجميع الديون الألمانية» 4 مليارات يورو. واليوم زاد هذا الرقم 10 مرات، ويصل حالياً إلى 40 مليار يورو.
في بحثٍ يائسٍ عن أيّ طريقة للخروج من الأزمة المالية، قرر الائتلاف الحاكم «إشارة المرور» في ألمانيا تعليق «كابح الديون»، على الرغم من أن «كابح الديون» منصوص عليه في دستور البلاد، بهدف منع العجز في البلاد عبر وضع سقف للاستدانة. لا يمكن لهذا إلّا أن يؤدي إلى زيادة العبء الضريبي، وبالتالي إلى تفاقم الأزمة السياسية في ألمانيا، فضلا عن استياء المواطنين وانتقاد الائتلاف الحاكم.
قالت أليس فايدل، رئيسة حزب البديل من أجل ألمانيا في البرلمان: إنّ إلغاء «كابح الديون» يشّكل انتهاكاً غير مسبوق للدستور الألماني في التاريخ. علاوة على ذلك، أكّدت أن ثلثي الشعب الألماني يريدون استقالة ائتلاف «إشارة المرور» الحاكم. ومع ذلك، وعلى الرغم من كل هذا، تخطط وزارة الخارجية الألمانية ليس فقط مواصلة الدعم المالي لأوكرانيا، ولكن أيضاً زيادة هذا الدعم وفقاً لوزيرة الخارجية الألمانية.
كل هذا ناتج عن السياسة المؤيدة للولايات المتحدة، حيث أن خروج الإنتاج من البلاد لم يتسبب في تدفق الاستثمار المباشر إلى الخارج فحسب، بل أدى أيضاً إلى انخفاض في مؤشرات التصدير. يعتقد بعض الباحثين أنّ بإمكاننا في الوقت الحاضر الحديث عن كون ألمانيا في حالة تبعية استعمارية للولايات المتحدة. الزمن سيحدد إلى أين تتجه ألمانيا مع تعليق «كابح الديون» ونمو الدّين العام والأزمات التي تمزق البلاد، لكن التوقعات مخيبة للآمال.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1156