لا يمكن لأمريكا إعادة ترميم قدراتها التصنيعية
دين بيكر دين بيكر

لا يمكن لأمريكا إعادة ترميم قدراتها التصنيعية

يناقش بعض «اليسار» الغربي بأنّ الليبرالية الجديدة قد ماتت. لكن مثل أغلب «الليبراليين الجدد»، ومنتقدي الليبرالية الجديدة، ما زال الجانبان لا يفهمان ما يجري. النقطة الأساسية التي يفتقدها الجانبان هنا، هي أنه لم يكن أحد ملتزماً فعلياً بالسوق الحرة دون تدخل الحكومة. وكان الفارق هنا هو أن من يسمون بالليبراليين الجدد، وكانوا يحبون الادعاء بأن سياساتهم تدور حول السوق الحرة غير المقيدة، في حين كان خصومهم يحبون الادعاء بأنهم كانوا يهاجمون السوق الحرة. في الواقع، كان الليبراليون الجدد يحاولون ببساطة هيكلة السوق على النحو الذي يعيد توزيع الدخل نحو الأعلى، في حين كانوا يزعمون أن اليد الخفية للسوق كانت وراء ذلك.

ترجمة: قاسيون

النقطة الأكثر أهمية التي تتفرّع عن هذا الخطاب، هي أنّ أمريكا لا تستطيع عكس الضربة التي أصابت التجارة وعمال التصنيع، والمجموعات الأكبر من العمال الذين لا يحملون شهادات جامعية، من خلال تبني سياسات الحماية الآن. بما أن وظائف التصنيع كانت تاريخياً مصدراً للوظائف ذات الأجور الجيدة نسبياً للعمال «خاصة العمال الذكور» الذين لا يحملون شهادات جامعية، فإن فقدان هذه الوظائف، وزيادة الأجور في الوظائف المتبقية، فرضت ضغوطاً هبوطية على أجور العمال غير الحاصلين على تعليم جامعي بشكل عام. وقد اختفت علاوة الأجور في قطاع التصنيع إلى حد كبير، نتيجة للانفتاح المتزايد على التجارة في السلع المصنعة.
في عام 1980، ووفقاً لبيانات مكتب إحصاءات العمل، كانت أجور العاملين في الإنتاج والعمال غير الإشرافيين أعلى بنسبة 6.0٪ تقريباً في قطاع التصنيع، مقارنة ببقية القطاع الخاص. وفي عام 2023، كانت أجور العاملين في الإنتاج والعمال غير الإشرافيين في التصنيع أقل بنسبة 9.7٪ منها في بقية القطاع الخاص. لا يعد هذا مقياساً شاملاً لعلاوة الأجور wage premium في قطاع التصنيع، حيث سيتعين علينا أيضاً إضافة المزايا وتعديل عوامل، مثل: العمر والتعليم والموقع، ولكن ليس هناك شك في أن علاوة الأجور قد انخفضت بشكل حاد في العقود الأربعة الماضية.
إن جزءاً كبيراً من تفسير انخفاض علاوات الأجور يتلخص في انخفاض معدلات الانضمام إلى النقابات في قطاع التصنيع. في عام 1980، كان 32.3% من العاملين في قطاع التصنيع منتسبين إلى النقابات، مقارنة بـ 12.8% في بقية القطاع الخاص. في عام 2023، كان 8.6% من عمال التصنيع منتسبين إلى نقابات، وهو أعلى قليلاً من معدل 6.1% لبقية القطاع الخاص. يفسر الانخفاض في معدلات الانضمام إلى النقابات بين عمال التصنيع إلى حد كبير بسبب الخسارة في علاوة الأجور. ومع ذلك، فإن هذا يعزز أيضاً وجهة النظر القائلة بأنّه لا يوجد سبب وجيه للتركيز على إعادة وظائف التصنيع في سياق لا يوجد فيه سبب للاعتقاد بأنها ستكون وظائف جيدة بشكل خاص.

أسطورة سلاسل التوريد

أحد الدروس التي يتحدث الكثيرون بأنّهم تعلموها من الوباء: هو أننا بحاجة إلى المزيد من الإنتاج المحلي لضمان مرونة سلاسل التوريد لدينا. يتضمن هذا الرأي بعض الالتباسات الرئيسية. أولاً: النقص في أشياء، مثل: كمامات الوجه وغيرها من معدات الحماية وأجهزة التنفس، التي ظهرت في بداية الوباء، ولم يكن لها علاقة بسلاسل التوريد. بل كانت هذه مشاكل المخزون. لن نتمكن فجأة من إنتاج مئات الملايين من الأقنعة، أو عشرات الآلاف من أجهزة التنفس، حتى لو تم إنتاج هذه العناصر كلها في ولاية أوهايو. كان ينبغي أن تكون لدينا مخزونات كبيرة في متناول اليد، للتعامل مع حالة الطوارئ التي خلقها كوفيد.
ثانياً: إنّ وجود الموردين المحليين لا يضمن المرونة. لقد تم إغلاق العديد من المصانع في الولايات المتحدة في نقاط مختلفة بسبب الوباء. ولو اعتمدنا بشكل حصري على الإنتاج المحلي، لكانت عمليات الإغلاق هذه قد خلقت مشاكل كبيرة. لا يوجد سبب وجيه للمساواة بين الاعتماد على الإنتاج المحلي والمرونة. لا يوجد سبب للاعتقاد بأننا بطريقة أو بأخرى كنا سنكون أفضل حالاً في ظل الوباء، إذا تم إنتاج جميع سلعنا المصنّعة محلياً.

خطأ تكامل العمّال

هناك أيديولوجية بين مؤيدي سياسة أمريكا التجارية، تزعم أننا لو أنفقنا بضعة دولارات فقط من أجل إعادة التدريب الإضافي، أو الرعاية الصحية، لكان بإمكاننا ضمان فوز الجميع. هذه قصة حسابية سيئة للغاية.
لقد زاد متوسط ​​الأجر بنحو 17٪ بين عامي 1980 و2023. ولو كان قد واكب الإنتاجية، كما حدث بين عام 1947 وفي عام 1973، كان من الممكن أن يتضاعف تقريباً. يصل الفرق إلى حوالي 15 دولاراً للساعة أو 30 ألف دولار للعامل، بدوام كامل لمدة عام كامل. إذا قلنا: إنه يتعين علينا توفير 60 مليون عامل بالكامل، فإن المدفوعات ستكون حوالي 180 مليار دولار سنوياً.
بطبيعة الحال، كانت هناك عوامل أخرى غير التجارة التي أدت إلى انخفاض الأجور. كان لدينا أيضاً مجلس علاقات العمل الوطني الأكثر مناهضة للنقابات. وقمنا بتحرير القطاعات الرئيسية، مثل: شركات الطيران، والنقل بالشاحنات، والاتصالات، مما فرض ضغوطاً هبوطية على أجور العاملين في هذه القطاعات. لنفترض أننا قلنا: إن 40% من الأجور المفقودة، أو 76 ألف مليار دولار سنوياً، يمكن إلقاء اللوم فيها على التجارة. يبقى أنّ هذا النوع من المساعدات التجارية ليس قصة معقولة.
هذه ليست مجرد حالة من الإغفال، حيث نسينا تعويض الخاسرين من التجارة، بل إنه من الخيال أن نتصور أن أي شيء، مثل: المساعدة اللازمة لتعويض الخاسرين سيكون ممكناً من الناحية السياسية أو الاقتصادية، إذا كانت لدينا فكرة أننا قادرون على جمع هذا النوع من الأموال من خلال الضرائب، فإن التأثير التشويهي لهذه الضرائب من شأنه أن يعوّض العديد من المكاسب الناجمة عن التجارة الأكثر انفتاحاً.
باختصار، لم يكن حلّ تكامل الخاسرين احتمالاً جدياً. كان الهدف من السياسة التجارية التي اتبعتها البلاد على مدار الأربعين عاماً الماضية هو إعادة توزيع الدخل من النصف الأدنى من الأجور إلى أولئك الموجودين في أعلى 10 أو 20٪.
إن المشكلة الأكبر في المناقشة الدائرة حول زوال الليبرالية الجديدة، هي أنها تقبل وجهة نظر تتعارض بشكل واضح مع الواقع. لم تكن الليبرالية الجديدة أبداً تتعلق فقط بترك الأشياء للسوق. وهذا اقتراح سخيف في ظاهره. لا يوجد سوق لترك الأمور له، يجب أن يتم تنظيم الأسواق حسب السياسة. وكانت المناقشات التي دارت على مدى العقود الأربعة الماضية تدور حول كيفية هيكلة الأسواق، وليس ما إذا كان ينبغي ترك الأمور للسوق فحسب.
لنأخذ مثالاً: الأطباء وغيرهم من المهنيين ذوي الأجور المرتفعة. لم يبذل ما يسمى بالليبراليين الجدد جهداً كبيراً لفتح التجارة في خدمات الأطباء، أو خدمات غيرهم من المهنيين ذوي الأجور المرتفعة. وهذا ليس لأن زيادة التجارة في هذه الخدمات، عن طريق سفر الأطباء أو المرضى أو التطبيب عن بعد غير ممكن، بل لأن وجود هؤلاء المهنيين لديه الكثير من السلطة السياسية، ويمكنهم إبعاد أي نقاش حول تقليل الحواجز التي تحميهم من الأجندة السياسية. نتيجة لذلك، يتقاضى أطباؤنا ضعف ما يتقاضاه الأطباء في البلدان الغنية الأخرى.
إذا أردنا إحراز تقدم جدي في تعزيز السياسات الاقتصادية التقدمية، فيتعين علينا أن نحصل على فكرة واضحة عما نكافحه. إن فكرة أننا نحارب السوق الحرة هي فكرة سخيفة. السوق أداة، مثل: العجلة. سيكون من السخافة خوض معركة ضد السوق، مثل: المعركة ضد العجلة. والمشكلة ليست في السوق، بل في مجموعة من السياسات التي استخدمها اليمين لهيكلة السوق، بحيث يتمكن من إعادة توزيع الدخل نحو الأعلى.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1157