القدرة التعبيرية والسخرية عند فيليني
بشار الدهان بشار الدهان

القدرة التعبيرية والسخرية عند فيليني

لقد ظهرت فكرة الفن في أشكالها الكلاسيكية، الذي اتخذ على عاتقه مهمة إزالة عيوب المجتمع، وذلك في نظرية شيللر حول التربية الجمالية، وكما هو معروف فإن شيللر خاف من القرارات الحاسمة حول الثورة الفرنسية العظمى في القرن الثامن عشر، وبدأ يفكر ويبحث عن طرق لتحسين المجتمع على ألّا تكون هذه الطرق ثورية، أي: دون عنف ووحشية، فاعتبر أنّ الفن يستطيع أن يمد جسراً عبر الهوة التي تفصل عالم العقل عن عالم العاطفة، وهو وحده يستطيع تربية الناس أحراراً والمواطنين كراماً.

إن الكثير من الفنانين في الغرب، حتى الواعين والواقعيين في التصوير الفني للحياة، يتمسكون مرة تلو الأخرى بهذه الأوهام والسذاجة ويشككون بمقدرة الفن ورسالته الإبداعية والاجتماعية بجمع الناس ولإبعاد فرقتهم. كما تحول هذه الأوهام دون رؤية العالم الواقعية كما تحول دون رؤية تناقضاته، حدث قبل هذا مع فيليني، نقد بصورة فلسفية فيلمه «الطريق». فبعد نقاش الكثير من النقاد لهذا الفيلم، كتب فيليني: من المستحيل اليوم التخلص من الشعور بالوحدة والغربة بطريقة التطلع إلى وحدة الصف والديمقراطية، ومن الضروري الكشف عن الأسباب التي وُلدت منها هذه الحالة.

«الحياة الحلوة»

كما هو معروف يستطيع أن يكون فيليني بلا رحمة، وأن ينزع الأقنعة.. وأن يغسل الأصبغة، وأن يحطم الكلمات الجميلة، التي يحتمي بها أبطال «الحياة الحلوة»، ويسترون بها فسادهم وحياتهم الفارغة، وأنانيتهم ويتسم الانسجام في أحسن أفلامه بين فيليني الساخر وفيليني المحلل، نعم إنه فيدريكو فيليني الفنان الغاضب الذي يستطيع أن يخترق إلى أعماق الشعور الإنساني، ولكن في حل موضوع حول دور الفن في إدراك وإزالة أو إضعاف شقاء الإنسان الذي يعيش الغربة، فلا يتخذ فيليني لنفسه موقفاً واقعياً، فهو يفهم الشقاء في أفلامه فهماً مجرداً، بعيداً عن الواقع التاريخي والاجتماعي المحدد. ومهم جداً في مثل هذا المعنى، فيلم فيليني «روما» الذي يجمع بين التاريخ والحاضر، ويرى أن القاسم المشترك للوجود الإنساني هو اليأس والقنوط وفقدان الأمل.

تاريخ روما

وضعت لافتة عملاقة من أجل الدعاية للفيلم، تظهر بها عاهرة متعجرفة تقف بعظمة على روما في ليلٍ دامس الظلام، ويخترق الظلام شعاع يصدر إمّا عن حريق وإمّا عن عاصفة، صورة فنية دقيقة حول المدينة الأبدية روما، إنها لوحة جدارية بصورة حسية بصرية وبشيء من المبالغة تنقل وتعبر عن الإحساس المأساوي للحياة وعن غضب وغيظ الإنسان.
يقلل المخرج في بداية الفيلم من قيمة تاريخ روما، ويعتبر أن هذا التاريخ منسوج من الأساطير، وهناك مشاهد كاريكاتيرية من قبل مجموعة من الشباب الضعاف جسدياً يضعون على رؤوسهم طاقيات يقودهم معلم عبر ساقيه قليلة العمق وينتقلون بحذر من صخرة إلى أخرى كي لا يبللوا ملابسهم. كلّما اقتربت أحداث الفيلم إلى الزمن المعاصر كلما أصبحت أحداثه ذات طابع شرير. وتعرض على الشاشة مشاهد تصور الحياة قبل الحرب، النخبة البورجوازية تتحاور مع الفقر المزري.
وتعرض بجهد الكرامة والنبل مع الصغر والتململ في الحياة الإنسانية.
تصور مشاهد الحياة أثناء حكم موسوليني من خلال المشاهدين، نسمع صراخاً متوحشاً، وتهديداً- لمن يخدم آلهة الشعر والأدب فيرمون- ببقايا التفاح، ويضربونهم أحياناً، إذا لم يبذلوا جهداً كبيراً في إقناع المشاهدين، تعرض الحفلة كما كانت تعرض حفلات النبلاء سابقاً، الذين كانوا يفتشون عن وسائل للتسلية.

عرض الأزياء

يعتبر مشهداً أساسياً ذلك المشهد الذي يعبر عن استقبال كبير بعد الحرب للكاردينال، يلتقي المجتمع الرفيع في قاعة فاخرة. فتتذكر العجائز، الأيام الماضية.. يأتي الكاردينال الذي يمد يده لكي يقبلها الآخرون ويجلس على كرسي الشرف وكأنه يتربع على العرش. يبدأ عرض الأزياء فعلى منصة خشبية وفي قاعة نصف دائرية تبدأ الراهبات بعرض الملابس التي تصلح للحياة اليومية ومن أجل خدمة القداديس. يشارك رجال الدِّين وأمراء الكنائس وفي النهاية هياكل عظمية تجرها عربات تعرض الأكفان وموديلاتها المختلفة.
يصور فيليني روما كمدينة قذرة مشوهة. حياة الأرستقراطية المتعطرسة، وحياة الأوساط الشعبية المتوحشة. لقد أصبحت المدينة بؤرة لكل العيوب، مدينة العاهرات والقوادين ومتعاطي المخدرات ورجال الشرطة القساة الذين يمثلون الوجه الآخر للتقدم المعاصر. يقوم بعملية التقدم بصورة فعلية الذين يبنون المترو. يصطدم بناة المترو أثناء حفرهم الأنفاق بكنوز وخزائن روما العريقة. فيكتشفون في إحدى الأمكنة لوحات جدارية رائعة الجمال لكن الهواء الخانق تحت الأرض يقضي على جمال تلك اللوحات. ومعنى ذلك أن الإنسان المعاصر الذي تأثر بالتقنية يقضي على الجمال ويهدم كل ما تصل إليه يده. هكذا عَبّر فيليني عن تلك الفترة من خلال الروح العدوانية الوقحة والدعارة وزحمة السيارات أثناء العاصفة، وتخريب اللوحات العريقة في النفق، المترو، هذه الأمور كلها وأمور أخرى عبارة عن رمز تشويه حياة روما، هذا هو شكل التصوير، وهذا هو الأسلوب، وهذا هو المنطق الداخلي للأحداث السينمائية.

الإنسان السافل

كما دخل فيليني تجربة تصوير فيلم «كازانوفا»، هذا الشخص المنحط والخبيث الساخر والحيوان المعتز بنفسه. فقد صرح فيليني في مقابلة اُجريتها معه مجلة «الإكسبريس» في عام 1975، قال فيها: كيف يمكن إنتاج فيلم حول هذا الإنسان السافل؟ من أية وجهه نظر؟ قرر فيليني فقط عن طريق التصوير الفني للفراغ. «لا أية إيديولوجيا» ولا أية إثارة ضجة ولا أية مشاعر ولا أية نواح جمالية ولا أي نقد اجتماعي. غياب كل شيء فيلم لا يُبقي على شيء، هنا تطرح هذا السؤال: ماذا بقي كي يُنتَج هذا الفيلم؟ بقي فقط الشكل المتقن، الذي يثير القشعريرة والمستقبل المظلم الذي يدعو لعدم الحركة والخمول، لأن في عيني كازانوفا الزجاجتين لا تقرأ غير هذا.
فيلم «كازانوفا» واقعي وطبيعي في وصفه لمغامرات البطل الجنسية. فشذوذ البطل الجنسي يصل لدرجة الأسطورة والخيال. تفصل هذا الفيلم عن الأفلام الجنسية الأخرى التجارية نقطتان، الأولى: القدرة التعبيرية عند فيليني وما شابه. الثانية: سخرية فيليني العميقة. ويتصف فن فيليني بهاتين الصفتين. (المناظر الجنسية تمثل في الفيلم وكأنها بالية، فيسخر فيليني بغضب من بطله، ولكنه أيضاً يسخر من الجمهور الذي اعتاد على خداع الشاشة البورجوازية).

معلومات إضافية

العدد رقم:
909
آخر تعديل على الإثنين, 15 نيسان/أبريل 2019 12:19