الدراما السوريّة بين مرآة الانحطاط ومطرقة التغيير
يافا مقدسي يافا مقدسي

الدراما السوريّة بين مرآة الانحطاط ومطرقة التغيير

يتذكر جيلٌ كاملٌ من مشاهدي الدراما السورية، وخاصة الذين كانوا أطفالاً عام 1996، مَشهداً ربما يمكن اعتباره أحد المنعطفات في تاريخ العنف بالدراما السورية، وينطبق عليه ما يطلق عليه في علم النفس عملية «نزع التحسس» أو «تخدير المشاعر». كان ذلك مشهد «كلّ شي إلا الخازوق يا سيدي» الشهير في مسلسل «إخوة التراب». حالياً وصلت جرعات العنف الجسدي والنفسي في الدراما السورية مستويات غير مسبوقة. فنرى مسلسلاً تبدأ أولى حلقاته بـ«التلذّذ بالشنق»، ويتابع بأجواء هوليودية ساديّة من دماء وعنف، رؤوس تُخبَط وأعضاءٌ تُسحَق وقتلٌ واغتصاب وخيانة وغيرها... البعض يبرّر بأنّ من «الطبيعي» أن تعكس الدراما «الواقع» لأنّ واقعنا عنيف. أمّا المُبدِع الثوري الكبير برتولد بريخت فكان له رأي آخر: «الفن ليس مرآة تُحمَلُ قُبالَة الواقع بل مطرقةٌ لتشكيله».

فكرة بريخت، وأنصار «الواقعية الاشتراكية»، هي أنّه حتى يكون للفن دور بنّاء وتقدمي في المجتمع يجب ألّا يكتفي بتصوير الواقع كما هو، لأن ذلك سيكون نوعاً من الواقعية التسجيلية المبتذلة أو السلبية، ويبدو أن عدداً من أعمال الدراما السورية انزلقت إلى هذا النوع، في حين أنّ الفنّ يجب أن يقترح الحلول أو على الأقل تصوّرات عن الحلول، إذا كان يريد أن يكون «جريئاً» بالمعنى الإيجابي للكلمة، بينما الحقيقة هي أن بعض الأعمال أو الحبكات الدرامية التي تدّعي «الجرأة» لا «جريء» فيها سوى الاعتداء البشع على ذائقة الناس وتطبيع الانحطاط في المجتمع عبر تصويرٍ «مرآتيّ» مثل الذي انتقده بريخت تماماً، وحتى مرآتهم ليست مستوية غالباً بل مشوّهة.

ما الهدف من «التصوير» بلا حلول؟

الجميع يعرف أنّ الأمراض الاجتماعية مثل الجريمة وتعاطي المخدّرات والانحلال الأخلاقي ظواهر موجودة ومتفاقمة في مجتمعنا، كما ويعرف الجميع أنها ناتجة بالأساس عن تراكمات عقود من التدهور الاقتصادي المعيشي وقمع الإنسان للإنسان من لقمة العيش إلى السياسة، والذي ازداد وتوسّع مع السياسات النيوليبرالية، ومع دوامة العواقب المتفاقمة وإطالة الأزمة والحرب والعنف المتواصل على الأغلبية الساحقة من الشعب، مع عرقلة الحلول الجذرية للمشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة.
ولكن انزلق اتجاهٌ محدَّد من الدراما السورية إلى الوقوع في سطحية الفن-المرآة التي انتقدها بريخت، ليلعب من حيث يدري أو لا يدري دور تطبيع الواقع المأساوي والكارثي والفاسد الذي تعاني منه البلاد والناس، بلا رسائل واضحة لتغييره، بل مع التورّط بدور «تخدير» المُشاهد ونزع إنسانيته أمام الواقع، في سوداوية تطغى على العمل الفني دون تقديم أيّ ضوء حقيقي في آخر النفق (فالتفاؤل والتشاؤم موقفان سياسيّان في نهاية المطاف)، مما يجعل هذا الاتجاه متَّهماً بمحاولة تطبيع هذا الواقع وبثّ التشاؤم والانهزامية أمامه، لا تغييره.

«ولاد بديعة» كدراما «أمريكية»

ظهرت مخرجة مسلسل ولاد بديعة، رشا شربتجي، وعدد من الفنانين المشاركين فيه في تصريحات للردّ على الانتقادات الشعبية التي أثارها المسلسل لدى كثير من المشاهدين بسبب الجرعة العالية من العنف والدموية التي طغت على كثير من مشاهِده. إنّ ما انتقده برتولد بريخت لدى من يجعلون الفن مجرد مرآة لتطبيع الواقع لا أداة لتغييره، نجد فنانين ومشاركين بالعمل يقعون فيه بالضبط، ويسوق بعضهم تبريرات للإفراط بالعنف الدراميّ. ففي تصريحاتهم لوكالة «ET بالعربي» أقرّ أحد المشاركين بالعمل بأنّه قاسٍ وغير صالح للأطفال، بينما برّره مشارك آخر بالقول: «عندما يصبح القَدَر قاسياً على الناس يجب أن تقدَّم الدراما بمنطق صادم حتى يشعر المشاهد بهول ما يدور حوله»!
وكأننا في هذه البلاد لا نعرف هول ما نعيشه وينقصنا تأكيد مشاعرنا من مسلسل أو فيلم يمارس علينا مزيداً من التعذيب النفسي لمجرّد التعذيب؟! ثمّ ماذا بعد أن «نشعر» بهول ما يدور؟ ما هي الرسالة التي يجب أن «نعيها» لكي «نفعل» على أساسها؟ أم أنّ المطلوب مجرّد «التشاؤم» وسلبية الفعل؟ وماذا حرّض المسلسل من سلوك وهل اقترح حلولاً؟ وهل المطلوب هو تنفيذ سلسلة من عمليّات نفسية «لنزع الحساسية» الإنسانية لدى المُشاهِد السوري تجاه العنف والإجرام حتى يتم تخديره فتصبح «طبيعية» بالنسبة له؟ هل نظلم هذه الأعمال إذا قلنا إنها متورّطة في «تطبيع» نفسيّ للعنف والشذوذ والجريمة والانحطاط والهزيمة، بدلاً من تحريض نخوة المشاهد وكرامته الإنسانية للنهوض ضدّها؟ وخاصة عندما يتمّ تصوير الضحايا كمهزومين ولا حول لهم ولا قوة أمام دوامة العنف والظلم والسياط التي تجلدهم من كل حدبٍ وصوب. ولنلاحظ أنّ ما تصوّره لنا هذه الدراما هي أنّ أمام الضحية خياران لا ثالث لهما: إمّا أن تبقى ضحيّة أو أن تتحوّل إلى مجرم جديد يبدأ باستبداد ضحايا جدد وهكذا دواليك، حاكمةً على الشخصيات بثنائية الساديّة-المازوخية وتبادلٍ «سبارتاكيّ» عَبثيّ للمصائر بين عبدٍ ومالك عبيد.
في الاتجاه نفسه قالت مخرجة العمل، رشا شربتجي، في المقابلة مع «ET بالعربي»: «هذا نوع الصدمة التي اشتغلتُ عليها من (غِزلان) حتى الآن، مروراً بـ(ولادة من الخاصرة)...».
لكن «العلاج بالصدمة» فنياً (على غرار نظيره الاقتصادي الليبرالي) سرعان ما تتبدّد قشرة «جرأته» عندما تتابع المخرجة فتذكر بصريح العبارة بأنّ مقولة العمل الأساسية هي أنّ العنف والأمراض الاجتماعية لا تقع مسؤوليتها على أحد! على مَن إذن؟ على «اليد الخفيّة للسوق»؟
فلقد صرّحتْ المخرجة بأن: «ذكاء هذا العمل هو أننا نقول إنّ مشاكلنا لا تقع على سلطة ولا تقع على مؤسسة ولا تقع على مجموعة [...] بل تقع على مجتمع كامل».
يا له من تبرير! فلا فساد مسؤولٌ ولا منظومة رأسمالية ليبرالية متعفنة ومتخلّفة مسؤولة، ولا ناهبين للداخل مسؤولون ولا أعداء بالخارج مسؤولون، ولا معرقلين للحلول مسؤولون!
حاشا أن تُقارَن الثريّا بالثرى، لكننا نتذكّر على سبيل المثال رائعة الراحل حاتم علي «التغريبة الفلسطينية»؛ فرغم أنّ لا أحد يفوق الصهاينة عنفاً ودموية ومجازر، لكن لم يقم «التغريبة الفلسطينية» بتصوير سلبيّ «مرآتيّ» للعنف والظلم بل قدّم العملُ «مطرقته البريختيّة»؛ رسالته الإنسانية الكبيرة التحرّرية رغم النكبة، بأنّ الحل هو المقاومة وليس الانهزام وليس التطبيع مع الاحتلال ولا تطبيع الواقع الذليل والخنوع له. وتجسّدت الخلاصةُ أروعَ تجسيد في المشهد الأخير المعروف.
أمّا صانعو العنف العبثيّ في أعمالٍ مثل «ولاد بديعة»، الذي يتم تقديمه كأنه «جرأة وواقعية ذكية»، فلم «يجرؤوا» سوى على تضييع المسؤولية عبر إلقائها (وبالتساوي!) على كلّ طبقات المجتمع، في محاولة لطمس الفوارق بينها. فهل تصحّ إشارة المساواة بين الأكثرية المفقرة المجوَّعة المقهورة والأقلية الناهبة؟ وهل يتساوى المجرمون مع الضحايا؟
هذا «الفن» ليس مدرسةً جديدة على كل حال. فمنذ الخمسينيات من القرن العشرين، أصبحت المسلسلات البوليسية من بين أكثر الإنتاجات شعبية على شاشة التلفزيون الأمريكي بالذات قبل أن تتم عولمة ثقافة الكاوبوي وتصديرها للأطراف التابعة. حيث يتم تصوير الجريمة على أنها مجرد عيب أخلاقي فردي حصراً للمجرمين كأفراد، وصارت هذه بالمناسبة بصمة نيوليبرالية ثقافية نموذجية في فَردَنة كل مشكلات المجتمع وتشظيتها، مع تبرئة المنظومة الاقتصادية-السياسية التي تعمل أقليتها الطبقية على استغلال أغلبيتها الساحقة. ولا يقتصر الأمر على أن هذه الإنتاجات تجاهلت بشكل متكرر مشاكل المنظومة الرأسمالية المتعفنة، بل وعملت كثير من المسلسلات التلفزيونية الأمريكية الهوى طوال النصف الثاني من القرن العشرين وحتى الآن على تطبيع الوحشية والجريمة، حيث تبرر السيناريوهات في كثير من الأحيان أعمال العنف الإجرامي، وتصور الاستغلال والانتهاكات الأخلاقية على أنها فعّالة وضرورية وأنها «شطارة» وجزء من «طبيعة بشرية أبدية».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1169
آخر تعديل على الإثنين, 08 نيسان/أبريل 2024 12:36