كان عليهم كسر المشاعات كي يستعمروا فلسطين
بيتر لينباو بيتر لينباو

كان عليهم كسر المشاعات كي يستعمروا فلسطين

أرغب أن أكتب اليوم عن المشاع، وهو الشكل الفلسطيني لحيازة الأراضي قبل الاحتلالين البريطاني و«الإسرائيلي». إنّها المشاعات التي حاول العثمانيون والبريطانيون و«الإسرائيليون» تدميرها. وتشمل الملكية الجماعية، والعمل التعاوني، وإعادة التوزيع الدوري. كانت علاقات المشاع مؤسسة دفاعية ضد الخوف من الضرائب والتجنيد العسكري من قبل السلطات العثمانية. إنّ أهميّة فلسطين الكوكبية ذات ثلاثة أبعاد: أولاً، هناك جغرافيتها عند التقاء ثلاث قارات: آسيا، وإفريقيا، وأوروبا، والمياه فيما بينها. ثانياً، هناك المستخرجات من تراب فلسطين، وكذلك من تحتها «حبوب ومعادن ونفط وغاز». وثالثاً، هناك أهميّة فلسطين فيما يتعلق بالاقتصادات الأصليّة التي تتمثّل في زراعة الأرض، والاستخراج من الأرض وحَفْرها، وإنشاء أنماط الإنتاج من «الهلال الخصيب».

ترجمة: قاسيون

دعونا نعود إلى ورقة نشرت في 1890 من المعهد الفيكتوري في لندن تشرح كيف تم في جنوب فلسطين تقسيم التربة الصالحة للزراعة بالقرعة. قال: «ينقسم الأشخاص الذين يقترحون العمل في الأرض إلى مجموعات، ويقوم رئيس كل مجموعة برسم قسم من الأرض يتناسب مع عدد الأشخاص في مجموعته. ويتكون كل قسم من أراضٍ مختلفة الخصوبة والصفات. يتم تقسيم هذه الأقسام مرة أخرى عن طريق القياس بمناخس الثور، أو خط يسمى الحبالة، وهو نظير خط القياس. إنّ المزارعين، في المناطق التي تمتلك هذه العادة، يفضلون طريقة التقسيم الشيوعي هذه على الاحتفاظ بالرسوم البسيطة». «الرسوم البسيطة» هي تعبير إقطاعي، وهو مصطلح قانوني إنجليزي للملكية الخاصة.
في عام 1865، بالإضافة إلى تأسيس «صندوق استكشاف فلسطين»، قام الصهاينة المسيحيون المؤمنون في إنجلترا بتشكيل معهد فيكتوريا للدفاع عن «الحقائق العظيمة التي كشف عنها الكتاب المقدس... ضد معارضة العلم المزعومة». تطوّرت علاقات المشاع على مدى أربعمئة عام في ظلّ الإمبراطورية العثمانية، التي ادعت امتلاك الأرض كقاعدة لفرض الضرائب على الأراضي الميري. وقد واجهت الجهود الرامية إلى تثبيت الملكية الخاصة عن طريق الإصلاح العثماني، أو الانتداب البريطاني، أو الاحتلال الصهيوني، مقاومة حازمة ومستمرة في قرى المشاع في جميع أنحاء فلسطين. أثبتت إجراءات الخصخصة أنّها مدمّرة لاقتصاد الفلاحين. لقد أبطلت المزايا الكامنة في النظام، وسهّلت نقل الأراضي من العرب إلى اليهود.
كان صموئيل بيرغهايم من عائلة مصرفية وأوروبية ومن المؤسسين «لصندوق الاستكشاف الفلسطيني». اشترى بيرغهايم عقارات في فلسطين بسندات ملكية مقبولة لدى العثمانيين، واشترت عائلة بيرغهايم الأرض عام 1872. في 1885 قُتل بيتر بيرغهايم، وكانت قرى بيرغهايم أيضاً موقعاً لواحد من أقدم المواجهات بين الاستعمار الاستيطاني والفلاحين لفرض قانون خصخصة الأراضي لعام 1858، والذي تمّ فيه تقويض نظام المشاع.
تشرح نورا الخليلي أنّ المشاع كان «ثقافة شرقية بارزة للأرض المشتركة». وتصف الطريقة الرئيسية التي تحولت بها قرية مشاع إلى بيئة حضرية في أعقاب أعمال العنف المتمثلة في رسم الخرائط، وتسجيل الملكية، والشراء، والبيع، والتي دفعت الناس إلى المدن والمخيمات بعد مصادرة الأراضي. وكان التحول كارثياً: أصبح الفلاحون لاجئين، واللاجئون أصبحوا عمّالاً. وقد ساعدت هذه العمليةَ اتفاقاتُ أوسلو في عامي 1993 و1995، والتي اعتمدت على الملكية الخاصة وعلاقات السوق النيوليبرالية، وعلى النظرية النيوليبرالية في «التنمية الاقتصادية».
بالنسبة للخليلي، فإنّ «مقاومة الفلاحين من الأسفل، ضد المشروع البريطاني لتطويق الأراضي وتسليعها، كانت في نهاية المطاف تتعلق بحماية المشاعات. لقد حدثت عملية تشكيل طبقي، مرتبطة بالاستملاك الفردي لأرض المشاع». وتتابع قائلة: «بينما يمكننا أن نشهد في أجزاء من العالم حركات السكان الأصليين والناشطين الذين يسعون إلى استعادة المشاعات من الملكية الخاصة، فإن العكس يحدث في فلسطين». في عام 1895، كتب ثيودور هرتزل، الأب المؤسس للصهيونية، في مذكراته قائلاً: «يجب علينا أن نصادر بلطف الممتلكات الخاصة المخصصة لنا...». تمّ الاستيلاء على 80% من الأراضي العربية منذ عام 1948. ومن بين الأساليب المستخدمة في هذه المصادرة حفر آبار ارتوازية أعمق للحصول على المياه. ويتم ضخ ثلث إمدادات المياه «الإسرائيلية» من الضفة الغربية، ويتم التحكم في النظام الهيدرولوجي المنزلي والبلدي والزراعي والصناعي من قبل شركة المياه «الإسرائيلية».

وطن للمصرفيين!

مع انهيار الإمبراطورية العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى، تم تكليف البريطانيين بحكم فلسطين. لقد وعد بلفور بوعده سيّئ السمعة المصرفيَّ روتشيلد «بوطن قومي للشعب اليهودي». وفي ظل الانتداب البريطاني، كان 70% من أراضي القرية لا تزال مملوكة بحيازة المشاع. نجح البريطانيون في مسح ومنح حق 25% من فلسطين. وكان هذا الضعف في المشاع بمثابة انتصار للحركة الصهيونية، حيث أصبح من الممكن الآن شراء وبيع الأراضي. ومع ذلك، بحلول عام 1947، كان الصهاينة قد حصلوا عن طريق الشراء على أقل من 10% من الأراضي الفلسطينية الصالحة للزراعة، وكانت القرية وأجزاء من المشاع لا تزال مهيمنة. كان البريطانيون قد وضعوا الأساس لتمهيد الطريق للاستعمار الصهيوني.
ثمّ مرّة أخرى، في لجنة بيل عام 1937، تم تحديد المشاع على أنّه مثبّط في مواجهة المقاومة العنيدة. واعتبر العرب المشاع «ضماناً ضدّ الاغتراب»، على حد تعبير اللجنة [من معاني كلمة التغريب أو الاغتراب alienation بالإنكليزية: تسليع الشيء بجعله قابلاً للبيع والشراء – المُعرِّب]. كان النضال من أجل التحرير وليس من أجل دولة جديدة. سعى مشروع الانتداب البريطاني في مسح ورسم الخرائط إلى مركزية السلطة وصنع القرار بعيداً عن السكان الأصليين. لكنّ أكبر عقبة وقفت في طريقه هي المشاع. لا تزال آثار سياسات الخصخصة وضرب المشاع قائمة حتى اليوم، حتّى في المدينة ومخيمات اللاجئين بالرغم من عنف الحرب ونزع الملكية وخصخصة الأراضي.
العنف يصاحب دائماً المصادرة. قارن اللورد بلفور في مذكراته استعمار فلسطين بمصادرة ممتلكات شعب سيوكس أو داكوتا، حيث قام السكان الأصليون في أمريكا الشمالية بزراعة النباتات لتحقيق ثلاث نتائج: (1) أصبحت الذرة الدعامة الأساسية بين «الأخوات الثلاث»: الذرة والفاصوليا والقرع، (2) اعتنت النساء بهذه المحاصيل، و(3) أصبحت القرية الوحدة الأساسية للمجتمع. وقد تم تقويض هذه الأفكار من قبل الاستعمار من خلال «الخطاب حول تحسين الأراضي وحقوق الملكية - المكمل بمفاهيم الوحشية والعنصرية - التي استقرت على المشهد الذي يمكن تمثيله بشبكة رقعة الشطرنج لحدود البلديات والمقاطعات التي تم فيها احتجاز السكان الأصليين في المحميات. إنّ أكثر النتائج إثارة للدهشة في استملاك الأراضي وضرب المشاع تمثّلت في التأثير الدائم لـ (تحسين الأراضي) باعتباره مصدر إلهام أيديولوجي لإعادة تصوّر المناظر الطبيعية ومحركاً لعمليّة تطويق الأرض والاستيلاء عليها». الخرائط والقوانين والأسوار هي تقنيات الاستحواذ والحيازة.
تم تصوير عامة الناس في فلسطين، وإنجلترا قبلها، كما هو الحال مع الأمريكيين الأصليين، على أنهم «متوحشون». بالنسبة للمنظّر آرثر يونغ، أول مؤرخ شامل «للتسييج Enclosure» في بريطانيا، كان عامة الناس «القوطَ والمخربين في الحقول المفتوحة». يتمّ ربط عامة الناس والسكان الأصليين في العالم بالتفسير التاريخي ومراحله الأربع المؤدية إلى «الحضارة» أو «التحديث» بوصفها كلمات طنانة يستخدمها المخططون والساسة وصنّاع السياسات في كل مكان.
بالنسبة للفلاحين والسكان الأصليين، في فلسطين وأمريكا وإنجلترا، كان هؤلاء من أصحاب «الحضارة» بشراً متوحشين. عند استعمار ماساتشوستس، سأل السكان الأصليون ساكيم ماساسويت: «ما هذا الذي تسمونه ملكية؟ لا يمكن أن تكون الأرض، فالأرض هي أمنا التي تطعم كل أطفالها، بهائمها، طيورها، أسماكها، وجميع البشر. فالغابات والجداول وكل شيء فيها ملك للجميع ومخصص لاستخدام الجميع. كيف يمكن لرجل أن يقول إنها تخصه وحده؟».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1164