العلم يفنّد الأساطير الصهيونية (الجزء الأول – التاريخ والآثار)
هاربال برار هاربال برار

العلم يفنّد الأساطير الصهيونية (الجزء الأول – التاريخ والآثار)

نشر هاربال برار، الأمين العام السابق للحزب الشيوعي البريطاني (الماركسي-اللينيني)، دراسةً عام 2017 في صحيفة LALKAR (نصف شهرية مناهضة للإمبريالية)، تناولت دحضاً علمياً للأساطير الصهيونية بشأن ادّعاءاتهم حول الأصول «الساميّة» لليهود المعاصرين. وأعيد نشرها كجزء من كُتيّب «الصهيونية – أيديولوجية عنصرية ومعادية للسامية»، وهو الكتيّب نفسه الذي بسببه قامت شرطة لندن، في 26 تشرين الثاني الماضي، باعتقال عدد من أعضاء الحزب الشيوعي المذكور، بينهم قياديّون، حيث كانوا يوزّعون الكتيّب أثناء تظاهرة احتجاجية مؤيّدة لفلسطين ومندّدة بالمجازر الصهيونية المتواصلة حالياً في غزة. فيما يلي تعريبٌ (بتصرّف تلخيصيّ) لجزء من الدراسة المذكورة.

تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان

ترتكز المطالبة الصهيونية بأرض فلسطين على فرضية تتذرّع بوعدٍ إلهيٍّ مزعوم في «العهد القديم» يمنح اليهود للأبد هذه الأرض بعد هروبهم من العبودية في مصر. في الحقيقة هذه ليست مصالح الربّ بل مصالح الإمبريالية والمدافعين عن الإمبريالية الذين يتقاضون رواتب عالية ودعاة الإمبريالية في الأوساط الأكاديمية ووسائل الإعلام، ناهيك عن القوة المالية والعسكرية للإمبريالية، والتي تتطلب إسكات الجميع، وأيّ شخص يعلن أنّ «الإمبراطور عارٍ».
تكتشف الأبحاث في التاريخ وعلم الآثار واللغويات وعلم الوراثة باستمرار أنّه لا توجد أيّ صلة تقريباً بين اليهودية الحديثة وأراضي فلسطين. تم جمع بعض هذه الأبحاث معاً في ورقة بحثية كتبها محمّدين ولد مي (الاسم المستعار لمحمد العلمي الياسيني (عام 2005، أستاذ الجغرافيا المشارك في قسم أنظمة الأرض والبيئة بجامعة ولاية إنديانا، بعنوان «الأصول غير الساميّة لليهود المعاصرين»، وبه يهتدي مقالنا هذا بشكل كبير.

مزاعم تاريخية وجغرافية

الادعاء الصهيوني بأنّ أرض «إسرائيل» هي كامل المساحة المحدودة شمالاً بنهر الفرات، وشرقاً بنهر الأردن، وجنوباً نهر النيل، وغرباً بالبحر المتوسط، هي «الحقّ الشرعي»، يعتمد على فكرة نسب جميع اليهود لنسل الأقوام الذين عاشوا في المنطقة في العصور التوراتية. ومن المفترض أنهم من غير العرب الذين هربوا من العبودية في مصر واستولوا على المنطقة من الكنعانيين الذين تمّت إبادتهم لتمكين اليهود من إقامة دولتهم اليهودية الأصلية. ورغم تغلّب البابليين عليهم ونفي عائلاتهم القوية إلى بابل، سُمح لهم بالعودة نحو العام 583 ق.م. وبقوا حتى طردهم الرومان عام 73 م.
للمطالبة بالمنطقة روّجت الصهيونية أن اليهود كلّ تلك الفترة، أو خلال جزء كبير منها، كان لهم دولة ذاتية الحكم فيها، عاصمتها القدس، وأنهم كلهم ​​أو معظمهم ينحدرون من اليهود الذين يفترض أنهم استولوا عليها بوصفها «أرض الميعاد» بعد هروبهم من العبودية في مصر والذين، بعد فترة من النفي إلى بابل، عادوا للسيطرة عليها لعدة قرون قبل طردهم من قبل الرومان. أخيراً، تطلّبت الصهيونية قبول انفصال اليهود «كعِرق» عن أيّ شعب آخر سكن المنطقة في أيّ وقت، من الذين افترضت الصهيونية أنهم، بخلاف اليهود، ليس لهم بطبيعة الحال «حق العودة» - عرقٌ تعتمد عضويته على ولادته من أمّ يهودية بغض النظر عن المعتقدات الدينية للفرد، بحيث لا يكون هناك أيّ مانع يحول دون اعتبارِ حتى الملحدينَ منهم «يهوداً» بشرط أن تكون أمهاتهم يهوديات عنصرياً أيضاً.
ينكشف زيف الرواية الصهيونية برمّتها في تعارضها مع الحقائق التاريخية المستنتجة من الدراسات التاريخية والأثرية واللغوية والوراثية.

«التاريخ» التوراتي

بادئ ذي بدء، لا يوجد أيّ أثر لليهود الذين استُعبِدوا في مصر على الإطلاق - على الرغم من كلّ الجهود المضنية التي بذلت للعثور عليهم. الصحيح هو أنّ منطقة «أرض إسرائيل» كانت، كلياً أو جزئياً، على مدى قرون تحت سيطرة المصريين. وفي الواقع ربما كان اليهود الأوائل قد استقوا دينهم من المصريين (ولكن ليس بالضرورة في فلسطين، كما سنرى أدناه) – نحو العام 1350 قبل الميلاد، حاول الفرعون المصري أخناتون إدخال التوحيد في الديانة الفرعونية التي كانت بالفعل تُرتِّب منذ قرون آلهتَها المختلفة في تسلسل هرميّ، وكان ترتيبها يتغيّر لهذا السبب أو ذاك. وخلص أخناتون إلى أنه سيكون من الأفضل وجود إله واحد – مع ما يترتب على ذلك من انخفاض في عدد وقوة الكهنة الطفيليين – بدلاً من العديد من الكهنة. ومن الواضح أنه جُوبِهَ بمعارضين مهمّين لهذه الفكرة بين المحافظين التقليديين. وبعد وفاة أخناتون مباشرة، أعاد خليفته توت عنخ آمون ديانة تعدّد الآلهة. ومع ذلك فمن المعقول التكهّن بأنّ آراء أخناتون حظيت بقدرٍ من الدعم الشعبي. يبدو أنّ هذه الآراء صارت سارية لا في مصر فقط بل وفي مناطق كفلسطين (تحت السيطرة المصرية) أو شبه الجزيرة العربية (بسبب العلاقات التجارية)، أو في كليهما معاً. (عام 2010 اكتُشِفَ نقشٌ فرعوني يعود إلى القرن 12 قبل الميلاد قرب مدينة الواحات القديمة، تيماء، مما يشكّل دليلاً على شبكات تجارية رئيسة كانت تعبر المنطقة آنذاك). يبدو من الممكن تماماً أنّ الديانة اليهودية تطوّرت كنوع توحيدي من الديانة الفرعونية التي انتشرت بين بعض الشعوب العربية، الذين ربّما انضمّوا أو حتى ألهَموا أتباعَ أخناتون المصريين هرباً من غضب التقليديين. بالطبع، كلّ هذا مجرّد تخمين، لكنه مع ذلك أكثر اتّساقاً مع الحقائق من الأساطير الكتابية.
إحدى الثغرات في هذا التخمين هو حقيقةٌ أكثر طعناً في الأساطير الصهيونية، وهي أنّه لا المؤرّخون ولا علماء الآثار تمكّنوا من العثور على أيّ دليل يدعم فكرة أيِّ وجود يهودي كبير في منطقة فلسطين في وقت عودتهم المفترضة من بابل. وقد زار المنطقة المؤرّخ اليوناني هيرودوت في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد تقريباً، وهو «لم يلاحظ وجوداً إسرائيليًا أو يهودياً في تلك الأرض، ولم يلفت انتباهه وجود القدس أو يهوداً هناك» (انظر كمال صليبي، تاريخية إسرائيل الكتابية: دراسات في صموئيل الأول والثاني، منشورات نابو، لندن، 1998). ورأى الكاتب كمال صليبي أن علماء الآثار المتحمّسين للأبحاث الكتابية الذين يحاولون بشكل محموم البحث عن أدلة على حقيقة الكتاب المقدس، لم يتوصّلوا إلى أيّ شيء حول تأسيس الوجود اليهودي على الأراضي الفلسطينية، وتكهَّن بأنّ المنطقة التي سكنها الشعب اليهودي في الأصل لم تكن فلسطين مطلقاً، بل منطقةً أكبر قليلاً في جنوب شبه الجزيرة العربية لها ساحل على البحر الأحمر وليس على الأبيض المتوسط، وأنّ إشارات الكتاب المقدس إلى «الأردن» كحدود لا تعني في الواقع نهر الأردن - لم يُذكَر أيُّ نهر في أيّ مكان - بل جبال السروات. ومن المحتمل أيضاً أنّ المنطقة التي كان يسكنها الكنعانيون (الفينيقيّون) في ذلك الوقت يمكن أن تكون بسهولة جنوب شبه الجزيرة العربية مثل فلسطين. بحسب الكتاب المقدس قام اللاجئون اليهود من مصر بإبادة الكنعانيين، لكن الأبحاث الحديثة تشير إلى أنّ اليهود في ذلك الوقت كانوا جميعاً كنعانيّين واعتنقوا التوحيد (انظر إسرائيل فينكلشتاين – من جامعة تل أبيب – ونيل آشر سيلبرمان – مركز إينام لعلم الآثار العامة، بلجيكا، اكتشاف الكتاب المقدس، الصحافة الحرة، سايمون وشوستر، نيويورك، 2002). على أيّ حال، لم يتمكن علماء الآثار من اكتشاف أيّ اختلافات بين القطع الأثرية التي يرجع تاريخها إلى ما قبل وبعد إبادة اليهود للكنعانيين، مثلما يتوقّع المرء أن يجده لو حلّت حضارةٌ محل أخرى في أيّ منطقة معينة.
ما هو مؤكَّد ومعقول هو أنّ القرن الثاني قبل الميلاد شهد قيام بعض اليهود من بابل بترسيخ أنفسهم على أراضي ما يسمونه الآن «أرض إسرائيل»، حيث أسّسوا مملكة «الحشمونائيم» تحت حكم «سيمون المكابي». قيل إنّهم فعلوا ذلك عندما وضع عُملاء بابل مكانهم للسيطرة على السكان المحليين لصالح أسيادهم، وبالتالي لم يكن هناك أيّ احتمال أن تكون هذه الدولة يهودية أو ذات سيادة. تحوّلت لغتهم في هذا الوقت من العبرية إلى الآرامية، مما يشير إلى أنهم لم يكونوا سوى أقلية في منطقة ناطقة باللغة الآرامية. على أيّة حال، استمرّت هذه الدولة 80 عاماً تقريباً، حتى استولى عليها الرومان قُرابة العام 63 قبل الميلاد. وحتى لو كانت فلسطين هي المكان الحقيقي لاستيطان الأوائل الذين اعتنقوا الدّيانة اليهودية، تجدرُ الإشارة إلى أنّهم لم يحكموها، حيث كانت المنطقة خاضعةً للفرس من 539 ق.م إلى 332 ق.م، واليونانيّين من 332 ق.م. حتى 167 ق.م.
وعلى العموم فإنّ الحجّة «التاريخية» المزعومة للادّعاء بأنّ فلسطين هي «وطن لليهود» وأنّ الله وعَدَهم بها هي حجّة هزيلةٌ للغاية!

(الجزء الثاني)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1152
آخر تعديل على الأحد, 04 شباط/فبراير 2024 11:25