الاتصالات السرّية بين الصهيونية والنازية (1)
كلاوس بولكين كلاوس بولكين

الاتصالات السرّية بين الصهيونية والنازية (1)

حاولت الحركة الصهيونية لعقود إخفاء تاريخ علاقاتها بالنازية الألمانية. ومع عودة الاهتمام العالمي بجرائم الإبادة الجماعية التي ما تزال تمارسها هذه الأخيرة، وخاصةً في غزة اليوم، من المفيد تسليط الضوء على بعض المعلومات والوثائق التي قد تبدو مُدهِشةً لبعض القرّاء، نظراً لهيمنة الرواية الصهيونية الكاذبة التي تتظاهر بأنّها «الحَمَل الوديع» و»ضحية الهولوكوست» و»معاداة السامية»، مخفيةً سنوات من الخدمات المتبادلة المشينة بينهما، ولكن غير المستغرَبة إذا تذكّرنا أنّ هذَين المَسخَين وُلِدا من الرّحم المتعفّنة نفسِها - رأس المال المالي الإجرامي العالمي.

تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان

تحت عنوان «الاتصالات السرّية بين الصهيونية وألمانيا النازية بين 1933 و1941» نشر الصحفي والباحث البارز من ألمانيا الشرقية كلاوس بولكين دراسةً في عام 1976، في مجلة «دراسات فلسطينية» باللغة الإنكليزية بجامعة كاليفورنيا. ونقدّم فيما يلي تعريباً لمقتطفات منها بتصرّف.

المَركب صهيونيّ، والربّان نازيّ

بالنسبة للقادة الصهاينة، فتح وصولُ هتلر إلى السلطة إمكانية تدفّق المهاجرين اليهود إلى فلسطين. وكانت هذه الهجرة إحدى نتائج اتفاقية «هافارا» (سنتحدث عنها لاحقاً)، حيث أسس الصهاينة شركة النقل البحري الخاصة بهم، واشتروا سفينة نقل الركّاب الألمانية «هوهنشتاين» وغيّروا اسمها إلى «تلّ أبيب». وانطلقت السفينة في رحلتها الأولى من ميناء بريمنهافن الألمانيّ إلى حيفا في مطلع العام 1935. وعلى هذه الرحلة نُقشَت على كوثَل السفينة (مؤخّرتها) الأحرف العبرية للاسم الجديد «تل أبيب»، في حين رفرفَ على صاريها في الوقت نفسه عَلَم الصليب المعقوف النازي – «توليفةٌ تعجّ بالسخافة الميتافيزيقيّة» كما وصفها فيما بعد أحد المهاجرين على متنها. والأنكى من ذلك أنّ قبطان السفينة بالذات، وكان اسمه لايديغ، كان عضواً مسجَّلاً في الحزب النازي!
قبل ذلك بسنتين، كانت «معاداة السامية» قد أصبحت سياسة حكومية ألمانيّة رسمية عندما سمّي هتلر مستشاراً للرايخ الألماني في 30 كانون الثاني 1933. وشهد ربيع ذلك العام بداية فترة من التعاون الخاص بين الصهيونية والنظام الفاشي الألماني لزيادة تدفّق المهاجرين اليهود الألمان ورأس المال إلى فلسطين. ونجحت السلطات الصهيونية في الحفاظ على هذا التعاون سرّياً لفترة طويلة. فقط منذ بداية الستينيّات، بدأت تظهر انتقاداتٌ هنا وهناك. كان ردّ الفعل الصهيوني يتألف عادةً من تصريحات بأنّ الاتصالات بين الجانبين إنما أقيمَت فقط بذريعة «الحفاظ على أرواح اليهود». ولكن الاتصالات كانت متميّزة بشكلٍ واضح، لأنها حدثت عندما كان العديد من اليهود والمنظَّمات اليهودية يطالبون بمقاطعةِ ألمانيا النّازية.
يقول بولكين إنّ «الحزب الشيوعي الإسرائيلي» قدّم ورقة في بداية مؤتمره السادس عشر، أشارت إلى ما يلي: «بعد تسلّم هتلر للسلطة في ألمانيا، وبينما كانت القوى المناهضة للفاشية في العالم وأغلبية المنظَّمات اليهودية تطالب بمقاطعة ألمانيا النازية، كان ثمّة تعاونٌ واتّصالاتٌ جارية بين القادة الصهاينة والحكومة الهتلرية» - ويشير بولكين إلى أنّ مرجع هذا الاقتباس هو: لائحة معلومات «الحزب الشيوعي الإسرائيلي»، 1969.
ويقتبس في دراسته عن المسؤول الصهيوني أليعازر ليفني، الذي كان محرّر صحيفة الهاغانا خلال الحرب العالمية الثانية، بأنّه صرّح خلال ندوة نُظِّمت من قبل صحيفة «معاريف» عام 1966 بما يلي: «إنّ إنقاذ القيادة الصهيونية لليهود لم يكن هدفاً بذاته، بل وسيلةً»؛ (وسيلة لإقامة الدولة اليهودية في فلسطين). واعتُبر من التابوهات التشكيك في رد فعل الحركة الصهيونية على الفاشية الألمانية، والتي في سياق حكمها الذي استمرّ اثني عشر عاماً قتلتْ كثيراً من اليهود.
وكتب بولكين في دراسته بأنه يصعب العثور على أدلة أصلية أو وثائق تتعلق بهذه الأحداث، وأنّ دراسته لن تقدّم بطبيعة الحال صورةً كاملة؛ ورأى بأن الصورة لن تكتمل سوى عند الوصول الكامل إلى الأرشيفات والوثائق طيّ الكتمان وخاصّةً تلك المُقفل عليها داخل «إسرائيل».

اليهود الألمان

قبل وصول هتلر للسلطة كان يُنظر لأغلبية اليهود الألمان بوصفهم ألماناً، ولم يكونوا يشعرون بأيّ تعاطفٌ يُذكَر مع المساعي الصهيونية. وكانت الإحصاءات الألمانية المُجمَّعة قبل تسلُّم الفاشيّين للسلطة، تصنّف الأقليّة اليهودية تحت عنوان الإيمان الدينيّ فقط. أمّا تصنيفهم كـ»عرق» فهو أمرٌ تُركَ إدخالُه للمشرِّعين الفاشيّين، كوسمٍ لليهود، وبالتالي تضمّن حتى أولئك المنحدرين من أصول يهودية الذين كانوا بالفعل جزءاً مندمجاً من المجتمع الألماني.
وفقاً للإحصائيات في ألمانيا عام 1933 كان يعيش 503 آلاف يهودي، شكّلوا 0.75% فقط من إجمالي السكّان. وكان 31% من جميع اليهود الألمان يعيشون في العاصمة برلين، ويشكّلون 4.3% من سكان المدينة. وتشير الإحصاءات الألمانية أيضاً إلى أنّ السكان اليهود في ألمانيا تناقصت أعدادهم بين عامَي 1871 و1933، من 1.05% إلى 0.76%.
كان هؤلاء اليهود الألمان، بأغلبيّتهم، إمّا غير صهاينة أو معادين للصهيونية. وقبل 1937 كان «الاتحاد الصهيوني لألمانيا» ZVFD يواجه صعوبات كبيرة في أنْ يلقى رواجاً أو آذاناً صاغية. ومن بين اليهود في ألمانيا المشمولين في إحصاء العام 1925، كان هناك، على سبيل المثال، فقط 8739 نسمة، أيْ لا يشكّلون حتى 2% ممّن يحقّ لهم الاقتراع في الانتخابات الصهيونية (أعضاء في منظّمات صهيونية). وفي الانتخابات المحلّية للجالية اليهودية في بروسيا، التي عُقدتْ في شباط 1925، كان هناك فقط 29 عضواً من أصل 124 منتخَبين ينتمون إلى مجموعات صهيونية.
والخلاصة أنه قبل سيطرة هتلر على السلطة، لم يكن الصهاينة بالأساس سوى أقليّة صغيرة وضعيفة النفوذ نسبياً بالمقارنة مع المنظّمات غير الصهيونية التي كانت تلعب الدور السائد في أوساط اليهود. وعلى رأس هذه الأخيرة، كان التنظيم الذي عُرف اختصاراً بـ CV أو «الاتحاد المركزي للمواطنين الألمان ذوي الإيمان اليهوديّ»، الذي تأسس عام 1893، وكما يشير اسمه ضمنيّاً يعتبر اليهود الألمان ألماناً في نهاية المطاف، ويعتبر أنّ مهمّته الأساسية مقارعة «العداء للسامية».
وبالتطابق مع هذا الموقف، صرّح الاتحاد المركزي (CV) أيضاً برفضه الحادّ للصهيونية. حتى أنّه تبنّى قراراً في مجلسه المركزي في 10 نيسان 1921 اختتمه بالكلمات التالية: «لو كان العمل من أجل الاستيطان في فلسطين لا يعدو كونه مهمّةً لتقديم المعونات والمساعدات، لما كنّا قلنا شيئاً ضدّه، ولكنّ الاستيطان في فلسطين هو في المقام الأوّل موضوعُ سياسة يهوديّة قوميّة، لذلك يجب أن نرفض دعمه».
ولاحظ الكاتب اليهودي فيرنز ف. موسى ما يلي: «في حين رأى قادة الاتحاد المركزي واجباً خاصّاً أنْ يتم تمثيل مصالح اليهود الألمان في النضال السياسي الفعّال، وقفت الصهيونية بالمقابل مع عملية الاستبعاد الممَنهَج لليهود من المشاركة في الحياة السياسية الألمانية. لقد رفضت الصهيونية، وكأمرٍ مبدئي بالنسبة لها، أيّة مشاركةٍ لها في النضال الذي قاده الاتحاد المركزي للمواطنين الألمان ذوي الإيمان اليهودي».

وجهان لأيديولوجيا واحدة

كانَ موقف الصهاينة تجاه الهيمنة المشؤومة الوشيكة للفاشية على ألمانيا آنذاك، يتحدّدُ بمزاعمٍ أيديولوجيّة مشتركة؛ فالصهاينة كما الفاشيين يعتمدون على أفكار عنصريّة غير علميّة. وتتلاقى الحركتان على الأرضية نفسها من المعتقدات والأساطير... وكلاهما شوفينيّتان وتميلان للإقصاء العِرقي.

ترحيب ودعم نازي

لا عجب وهذه الحال أنْ رحّبَ الفاشيّون الألمان بالفعل بالمفاهيم الصهيونية، حتى أنّ ألفرد روزنبرغ، وهو من الأيديولوجيّين الأساسيّين في الحزب النازي كتب ما يلي: «يجب دعم الصهيونية بقوّة بحيث يتمّ نقل عدد من اليهود الألمان بالتأكيد وبشكلٍ سنويّ إلى فلسطين، أو على الأقلّ دفعهم إلى أن يرحلوا من البلد». فيما بعد كتب هانز لام: «ممّا لا جدال فيه أنّه في المراحل الأولى من السياسة اليهودية اعتقد النازيّون أنه من الملائم تبنّي موقفٍ مؤيّد للصهيونية».

لقراءة الجزء الثاني من هذا المقال، اضغط هنا

معلومات إضافية

العدد رقم:
1158
آخر تعديل على الأحد, 04 شباط/فبراير 2024 11:08