حول مقولة أنّ الصراع هو «إيراني – إسرائيلي» و«نحنا ما دخلنا»!

حول مقولة أنّ الصراع هو «إيراني – إسرائيلي» و«نحنا ما دخلنا»!

يمتلئ حيزٌ واسع من الفضاءات الإعلامية، ومنذ بدأت الضربات «الإسرائيلية» على سورية بالتصاعد، وبعد 7 أكتوبر بشكل أوضح، بمقولاتٍ من نمط: «تحولت سورية إلى صندوق بريد للرسائل المتبادلة (الإسرائيلية) الإيرانية»، و«سورية باتت ساحة معركة بين إيران و[إسرائيل]»... وإلخ.

ويجري إسناد هذه المقولات بمقولات أخرى من نمط: «حماس والجهاد هما أداتان إيرانيتان»، «الحوثيون هم أداة إيرانية»، «حزب الله هو أداة إيرانية»، حتى المحتجون في الأردن وفي مصر المطالبون بسلوكٍ مختلفٍ للنظامين في التعامل مع الإجرام الصهيوني، هم أيضاً «أدوات إيرانية».
وباختصار، يجري ضمنياً، وعبر اختزال الواقع بـ«صراع إيراني-إسرائيلي»، عملٌ ممنهجٌ ليس لدفن «الصراع العربي-الإسرائيلي» فحسب، بل ولدفن «الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي» أيضاً؛ فالوقاحة وانعدام المبادئ قد وصلت بالمطبعين، وبالراغبين في التطبيع من مرتزقة الأمريكان العلنيين وغير العلنيين، حدّ اعتبار الفلسطينيين الواقعين تحت نير أكثر استعمار استيطاني همجيةً ووحشية وعنصرية عبر التاريخ -وحينما يهبون للنضال ضد هذا الاستعمار- يجري اعتبارهم وتوصيفهم بأنهم «أدوات إيرانية»!

عملية إزاحة الوعي العام

لم يبدأ العمل على إزاحة وضرب الوعي العام في العالم العربي في 7 أكتوبر، بل قبل ذلك بكثير؛ ربما منذ الحرب العراقية الإيرانية، وبعدها مع احتلال الأمريكان للعراق بشكلٍ أوضح. في حينه جرى تقديم «الصراع السني-الشيعي»، و«الصراع العربي-الفارسي/المجوسي»، بوصفهما الصراع الوجودي والأساسي الذي يعيشه العالم العربي. استمر هذا الأمر بالتصاعد وأضيف إليه بعد الأزمة السورية «الصراع التركي/الطوراني/العثماني-العربي»، وبالتوازي جرى تحييدٌ تدريجي للصراع العربي-«الإسرائيلي» عن دائرة الضوء.
مع اتفاقات أبراهام، وقبلها وخلالها وبعدها، جرى الترويج لفكرة «ناتو عربي»، يضم دول الخليج والأردن ومصر إلى جانب الكيان الصهيوني في تحالف واحد تحت الإشراف الأمريكي، وضد إيران بالدرجة الأولى، وتركيا بالدرجة الثانية.
لإزالة أي لبسٍ في فهم الأمور، ينبغي تثبيت حقيقة، أن هنالك تناقضاً بين كلٍ من إيران وتركيا وبين عدة دولٍ في العالم العربي، وربما وصل التناقض في مراحل معينة حدّ العداء المباشر وحدّ القتال، كما في الحرب العراقية الإيرانية. أساس هذا التناقض أمران، الأول: هو التنافس الإقليمي الطبيعي، والذي لم يكن ليصل وحده إلى حدود العداء لولا الأمر الثاني المتمثل بالتخريب الممنهج الأمريكي-«الإسرائيلي»، واللعب المستمر على الفوالق الطائفية والقومية في مجمل المنطقة، ضمن مشروع الفوضى الهدامة الأمريكية، ومشروع الشرق الأوسط الكبير والجديد الصهيوني في جوهره.
بكلامٍ آخر، فإننا هنا لا ننتقص من حقيقة وجود تناقضات سواء مع الإيراني أو مع التركي، بل ولا ننتقص أيضاً من حقيقة أنّ كلّاً من هاتين الدولتين قد تمدَّدت نفوذاً وتأثيراً على حساب الدول العربية خلال العقدين الماضيين، سواء بأشكالٍ مباشرة أو غير مباشرة. ولكنّ هذا أمر، واعتبار التنافس وحتى التناقض عداءً مطلقاً وجودياً هو أمر آخر، والوصول حدّ اعتبار الصهيوني حليفاً محتملاً في الصراع معهما هو أمرٌ ثالثٌ أفظع وأكثر مرارةً.

جوهر المسألة

للمضي خطوة إضافية في تحليل مجمل التناقضات التي نتحدث عنها، ينبغي تثبيت الحقيقة التاريخية التالية:
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، كانت منطقتنا بمجملها منطقة نفوذٍ أمريكي، ضمن عالمٍ أحادي القطبية، وإنْ تفاوتت درجة السطوة الأمريكية من دولةٍ إلى أخرى.
مع بدء تغيّر ميزان القوى الدولي بشكلٍ غير ملحوظٍ مطلع الألفية، وملحوظٍ وواضح خلال العقد الثاني منها، بدأ التراجع الأمريكي بالظهور بشكلٍ أكبر، وبدأت السطوة الأمريكية تتضاءل في عموم المنطقة، تاركةً وراءها فراغات تحتاج إلى ملء، ولأنّ الطبيعة لا تقبل الفراغ، تقدمت القوى الإقليمية لملء هذا الفراغ.
وإذا عدنا إلى ما قبل 10-20 عاماً، فإنّ القوى الإقليمية التي كانت الأكثر استعداداً لملء هذا الفراغ، هي إيران، تركيا، و«إسرائيل»، ومؤخراً فقط بدأت كلٌّ من السعودية ومصر بدرجة أقل، بلعب أدوارٍ إقليمية أوسع من أدوارهما السابقة.
بهذا المعنى، فإنّ العمل على شيطنة الإيراني والتركي وعلى تطبيع العلاقات مع الصهيوني، كان الغرض منه، ولا يزال، محاولة ملء الفراغ الأمريكي الموضوعي، عبر «إسرائيل» قوةً إقليمية أساسية، ووحيدة إنْ أمكن.
الحل الموضوعي المتكامل للمسألة، لن يجري حتى تصل شعوب المنطقة بأسرها إلى انتزاع حقها في تقرير مصيرها بنفسها، وحينها فقط يمكن دفن التناقضات الثانوية مرة وإلى الأبد عبر اتحاد مصالح شعوب الشرق العظيم، وليس عبر صفقات الأنظمة.
ولكنّ الوصول إلى عتبة إنفاذٍ فعلي لحق الشعوب في مجمل منطقتنا في تقرير مصيرها، لن يتمّ بشكلٍ حقيقي دون تحييد الفوضى الأمريكية الهجينة، ودون تحييد أداتها التخريبية الأكثر فاعلية في المنطقة: الكيان الصهيوني... ولذا فإنّ العداء لهذا الكيان هو جزء من عملية التغيير الثورية لمصلحة الشعوب، على المستويات المحلية والإقليمية وحتى على المستوى الدولي...

أربعة أحداث عكس التيار الأمريكي

إذا كان احتلال العراق عام 2003، وما تلاه من تفعيلٍ أمريكي للإرهاب لاختلاق حرب أهلية طائفية (سنية-شيعية) قد فعل فعله التخريبي في منطقتنا، وإذا كان تكرار محاولة الحرب الأهلية الطائفية في سورية خلال العقد الثاني من هذا القرن، قد فعل هو الآخر الفعل نفسه وإنْ بمستوىً مختلف، فإنّ أربعة أحداث مهمة قد غيرت المسار الأمريكي التخريبي في المنطقة.
أول هذه الأحداث: هو نشوء مسار أستانا الذي ضمّ كلاً من إيران وتركيا وروسيا في ورشة عمل واحدة، واضعاً نقطة البداية الفعلية لإنهاء موضوع الصراع السني الشيعي، بما في ذلك على مستوى الوعي الشعبي، عبر انخراط أكبر دولة شيعية في المنطقة من حيث عدد السكان، وأكبر دولة سنية من حيث المساحة والنفوذ، في مسارٍ مشترك تعزز مع السنوات وصولاً إلى مشاركة تركية فاعلة في التفاف إيران على العقوبات الأمريكية عليها.
الحدث الثاني: هو التسوية السعودية الإيرانية برعاية صينية، وبتشجيع روسي، والتي عززت من تهافت الفالق «السني-الشيعي»، وكذلك من تراجع الفالق «العربي-الفارسي»، باعتبار السعودية مركزاً أساسياً بالمعنى الديني «السني»، وبالمعنى العربي، بمقابل إيران «الشيعية-الفارسية».
الحدث الثالث: هو جملة التسويات التي جرت خلال العام الماضي بين السعودية ومصر والإمارات من جهة، وبين تركيا من الجهة المقابلة.
الحدث الرابع: هو 7 أكتوبر، والذي شطب وهشّم على مستوى الوعي الشعبي العام، كل ما تبقى من أضاليل «الصراع السني-الشيعي» و«الصراع العربي-الفارسي».
ما نراه في وسائل الإعلام المتأمركة، وضمناً في وسائل إعلامٍ محسوبة على «المعارضة السورية» وأخرى غير رسمية محسوبة على «الموالاة»، من محاولات لإعادة إحياء هذه الفوالق، ما هو إلا انفصالٌ تامٌّ عن واقع وأحاسيس وأفكار الشعوب العربية. وهو في الوقت نفسه محاولة لتبرير التخاذل والخزي الذي يشمل أنظمة عربية عديدة أمام شعوبها، نتيجة المواقف المخزية من الصراع الأهم والأكثر أساسية في منطقتنا وهو الصراع مع الصهيوني، والذي ليس صراعاً فلسطينياً-«إسرائيلياً» فحسب، ولا حتى صراعاً عربياً-«إسرائيلياً» فقط، بل هو صراع بين كل شعوب المنطقة، بل وشعوب العالم الساعية إلى الانعتاق من الاستعمار بشكليه القديم والجديد، وبين هذا الاستعمار الذي يمثل الكيان الصهيوني صورته الحقيقية القبيحة.

عن سورية

بما يخصُّنا في سورية، فإنّنا لسنا «ساحة صراعٍ إيراني-إسرائيلي»، بل نحن -كشعب سوريٍّ وكبلد- في صراعٍ وجوديٍّ مع الصهيوني والأمريكي، صراع بقاء... والمستهدف بالضربات «الإسرائيلية» ليس الوجود الإيراني في سورية فحسب، بل أهم من ذلك أنّ المستهدف هو التموضع السياسي لسورية المستقبل، والوحدة السياسية لسورية المستقبل...
فتحت مقولة إنّ الصراع هو «إيراني-إسرائيلي»، و«نحنا ما دخلنا»، حيث يجري العمل على استكمال مشروع «خطوة مقابل خطوة» الذي يشتمل على صفقات من تحت الطاولة منتهاها هو تفتيت سورية من جهة، وإلقاؤها في وحول التطبيع مع الكيان من الجهة الأخرى... ويلتقي في العمل على هذا المخطط تجّار الحرب والمتشدّدون من كلّ الأطراف، والذين يرون في الحل السياسي عبر 2254 خطراً وجودياً أكبر من أي خطر آخر، ويسعون لاسترضاء الغرب بكل وسيلة ممكنة... والحق أنه، وكما قالت افتتاحية قاسيون، العدد 1168، فإنّ «إغضاب الاستعمار الجديد سهلٌ جداً، وإرضاؤه مستحيل»...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1169
آخر تعديل على الإثنين, 08 نيسان/أبريل 2024 12:45