هجرة الأطباء... واقع مأساوي ومعيارٌ لتدهور المنظومة الصحية!

هجرة الأطباء... واقع مأساوي ومعيارٌ لتدهور المنظومة الصحية!

عاماً تلو الآخر، يعاني المواطن السوري من تدني مستوى الخدمات الصحية المقدمة له وارتفاع تكاليفها، وها نحن الآن وبعد مضي 13 عاماً على الأزمة نقف أمام تدهور حقيقي يهدد أمن المواطن الصحي!

وأمام منظومة صحية متهالكة من كثرة الأزمات والمشاكل المزمنة، التي تخطت سوء الخدمة، ونقص المواد الأساسية، وسوء التشخيص، وصولاً إلى النقص الحاد في أعداد الكوادر الطبية نوعاً وكمّاً، وهو الذي كثر الحديث عنه في الآونة الأخيرة، مما دفعنا إلى التساؤل عن حجم الكارثة الحقيقي، ومدى تأثيرها على المواطن السوري وعلى المستقبل الصحي لأبنائنا؟

هجرة الأطباء إشكالية تصاحبها إشكاليات كبيرة!

لم يكن موضوع هجرة الأطباء موضوع نقاش سياسي ولا اجتماعي إلا في السنوات الأخيرة، وبشكل نسبي ومحدود وغير رسمي غالباً، نظراً لتفاقم هذه الظاهرة وتداعياتها التي بدأنا نحن السوريين نلمسها ونعيشها وبصورة مأساوية!
فالحديث عن هجرة الأطباء هو حديث عن فقدان سورية لاستراتيجيات الحفاظ على الأطر والكفاءات الطبية المؤهلة، وهو حديث عن هشاشة البنيات الاستشفائية والصحية من جهة، وعن تعرية السياسات الحكومية التطفيشية والمذلة من جهة ثانية، وهو حديث عن ملايين المواطنين العاجزين أمام أوجاعهم، وعن الكثير من الحقوق الغائبة!
فهجرة الأطباء تعني هجرة الأفكار والمهارات وتقنيات العلاج والعلم، إذ يمكن اعتبارها بمثابة نزيف اجتماعي يؤثر على النسق الكلي للمجتمع، ومعياراً لتدهور المنظومة الصحية، وسوء الأوضاع الاقتصادية، وفشل السياسات الحكومية التي تعتبر العامل الرسمي الرئيسي في إنتاج ظاهرة الهجرة، وتحويل الكوادر الطبية وغيرها إلى مشروع مهاجرين!

اعترافات رسمية وشبه رسمية بحجم النزف!

كشف رئيس فرع نقابة الأطباء في درعا أكرم الخيرات، لصحيفة الوطن بتاريخ 15/2/2024، أن: «عدد الأطباء المسجلين في فرع النقابة 900 طبيب، 300 طبيب منهم خارج البلاد والنقابة على تواصل معهم، على حين أن هناك أطباء هم خارج البلاد ولكن لا نعلم عنهم شيئاً ولسنا على تواصل معهم، ومن هذا المنطلق فإن العدد من الممكن أن يكون أكبر من ذلك بكثير»!
وأضاف رئيس فرع نقابة الأطباء في درعا: «هناك نقص كبير من الأطباء في مشافي درعا، حتى إن هناك بعض المشافي يوجد فيها من كل اختصاص طبيب واحد فقط»!
حسب التصريح أعلاه فإن أكثر من ثلث الأطباء المسجلين بفرع نقابة الأطباء في درعا مهاجرون، في حين تعاني محافظة درعا من نقص حاد في الكوادر الطبية!
ليست درعا وحدها من دق ناقوس الخطر، فالسويداء تلتها حيث صرح مدير مشفى صلخد لـصحيفة «الوطن» بتاريخ 31/3/2024 بقوله: «دمجنا أقسام الجراحة لنقص الكادر الطبي والتمريضي ولتخفيف الأعباء»!
كذلك حماة التي ناشد أطباؤها الجهات المعنية للحد من هجرة ونزف الأطباء، ولا سيما الشباب، حيث أوضح نقيب أطباء حماة الدكتور عبد الرزاق السبع خلال المؤتمر السنوي لأطباء حماة الذي عقد بتاريخ 20/2/2024 أن هجرة الأطباء كانت وما زالت أحد هواجس هذا القطاع الذي يعاني من النزف المستمر. ودعا إلى تشكيل لجنة عليا لدراسة أسباب هجرة الأطباء وخاصة من جيل الشباب، لتلافيها والحد من هذه الظاهرة المؤلمة!
هذه الظاهرة المزمنة بدأت من قبل اندلاع الأزمة، واستشرست خلال سنواتها وسط إهمال حكومي متعمد، وعدم اكتراث رغم كثرة التحذيرات والمناشدات!
فبتاريخ 23/5/2023 نشرت صحيفة «الوطن» تقريراً جاء فيه: «الكادر الطبي خسر 30% من أطباء التخدير، جزء من هذه النسبة بسبب السفر، و70% من الأطباء في أعمار قريبة للتقاعد»!
وخرج قبل ذلك بسنة الدكتور ماهر الزعبي، المدير الإداري ومسؤول التواصل في مشفى الجيزة في درعا ليقول إن مجمل عدد الأطباء الذين هاجروا حوالي 25 ألف طبيب منذ بداية الأزمة في 2011 حتى 2022!
ورغم أن الأرقام مرعبة، إلّا أن المشكلة على ما يبدو ليست كمّية فحسب، بل ونوعية أيضاً، إذ أدّت هجرة الأطباء إلى فقدان اختصاصات كاملة، كاختصاص التخدير الذي بات يعاني من استنزافٍ سريع غير قابل للتعويض، إذ بلغ عدد أطباء التخدير 500 طبيب في كل سورية، واختصاص الطب الشرعي وزراعة الكلى كذلك!
حتى طب الأسنان لم يسلم من هذا الوباء المتسارع، حيث أفاد نقيب أطباء الأسنان زكريا الباشا عبر صحيفة الوطن الشهر الماضي أن نسبة أطباء الأسنان المختصين لا تتجاوز 10 بالمئة من إجمالي الأطباء في البلاد، مؤكداً أن نسبة كبيرة من الأطباء يهاجرون للحصول على اختصاص من خارج سورية!

ظاهرة غير مرصودة!

رغم هول الأرقام أعلاه إلا أنها تفتقد الدقة، فأعداد الأطباء المهاجرين أكبر بكثير من المصرح عنه أعلاه!
وحسب ما نشره تلفزيون الخبر بتاريخ 28/3/2024 نقلاً عن رئيس المكتب المركزي للإحصاء، «عدنان حميدان»، أنه «لا توجد معلومات دقيقة عن الهجرة حتى الآن، إذ يجري العمل على إحصاء عدد المهاجرين السوريين بالتعاون مع وزارتي الداخلية والخارجية والمغتربين».
وأشار «حميدان» إلى أنه «بوضع معلومات دقيقة عن أعداد المهاجرين فإنه يتم بذلك معرفة هجرة العمالة وأعمار العمالة التي هاجرت، كما يوجد تقصير كبير في هذا الموضوع، وكان يجب أن تكون هناك مبادرة بهذا الخصوص منذ فترة».
ما سبق أعلاه هي بداية اعترافات رسمية بالتقصير، ومؤشراتٌ بدأت تتضح وتوضح حجم الكارثة الصحية المقبلين عليها!
فحسب تقريرٍ نشرته مجموعة «فونكه» الإعلامية الألمانية الشهر الماضي، جاء استناداً إلى إحصاء الأطباء التابع لغرفة الأطباء الاتحادية في ألمانيا، بلغ عدد الأطباء السوريين 6,120 طبيباً وهو الأكثر، تلاهم الأطباء من الجنسية الرومانية بعدد 4,668 طبيباً!
وهذا في ألمانيا وحدها، فلنا أن نتخيل عدد الأطباء السوريين المنتشرين في بقاع الأرض- دول الخليج والصومال والعراق والدول الأوروبية!

أرقام وزارة التعليم العالي تنذر بكارثة حقيقية!

بناءً على الإحصائيات المنشورة على موقع وزارة التعليم العالي من العام الدراسي 2001-2002 حتى العام 2015-2016 فإن نسبة نمو طلاب الجامعات تعادل 7% سنوياً، وقد تبين من الأرقام تراجع في نسبة المقبولين في كليات الطب البشري وطب الأسنان بالمقارنة مع تعداد الطلاب العام المتناقص هو الآخر!
وفي حال قيامنا بتطبيق هذه النسبة على العام الدراسي الحالي 2024-2025 نكون أمام 804,700 ألف طالب جامعي، منهم 8,470 طالباً مستجداً في الطب البشري فقط، و10,090 طالباً مستجداً في طب الأسنان، ومع مرور السنوات ستستمر نسبة طلاب الكليات الطبية إلى طلاب الكليات الأخرى بالتناقص، حسب المخطط أدناه:

1171ee

نلاحظ بوضوح التناقص بأعداد طلاب الطب البشري مقارنة بأعداد الطلاب الوافدة إلى الجامعات!
ففي حال قيامنا بحساب نسبة طلاب الطب البشري في عام 2001-2002 لوجدناها تعادل تقريباً 4,6% من مجموع الطلاب، لتتراجع إلى 3,5% في عام 2014-2015، وباستمرار المتوالية على هذا النحو من التراجع والانحدار نخلص إلى استنتاج مفاده أنّ بعد 10 أعوام، أي في العام 2032-2033 ستكون نسبة طلاب الطب أقل من 2% من مجموع الطلاب!
يوضح الجدول الآتي بعض البيانات الرقمية التي اعتمدناها:

1171g

إحصائيات البنك الدولي!

وفق المعايير الدولية، يجب أن يكون هناك 23 طبيباً لكل عشرة آلاف نسمة، أي 2,3 طبيب لكل 1000 شخص!
وحسب إحصائيات البنك الدولي فإنه في عام 2002 قد ارتفع عدد الأطباء إلى 1,5 لكل 1000 مواطن سوري- مع الأخذ بعين الاعتبار أن الرقم أعلاه أقل من المعيار الدولي المحدد أعلاه- إلا أن هذا الرقم استمر بالانخفاض ليبلغ 1,4 في عام 2010-2012، ويزيد انخفاضاً إلى 1,2 طبيب في عام 2016!
أي إننا أمام نسبة تآكل تقارب الـ14% بين عامي 2014-2016 فقط في عدد الأطباء، وفي حال استمرار الوضع على هذا المنوال من التراجع والانخفاض فسنصل إلى عام 2026 بطبيب واحد لكل 2000 مواطن!

مقارنة مع بعض الدول!

في الجدول الآتي نستعرض بعض الإحصائيات لكل من ألمانيا، الأردن، وأستراليا، وتركيا خلال الفترة الزمنية الممتدة من 2000 إلى 2020 لتوضيح نسبة الأطباء إلى التعداد السكاني في هذه الدول، بالمقارنة مع سورية!

 1171f

بمقارنة الإحصائيات أعلاه مع الإحصائيات المتعلقة بسورية نخلص إلى نتيجة يوضحها المخطط التالي عن الفترة المدروسة مع المؤشرات المتوقعة استناداً إليها خلال السنوات الآتي ذكرها:

1171dd

نلحظ حسب المخطط زيادة في عدد أطباء ألمانيا، علماً أن النمو السكاني فيها متراجع، وهذا نتيجة استقطابها للأطباء.
أما في الأردن، ورغم أنها ليست دولة استقطاب للأطباء، إلا أنها حافظت على نمو جيد، ربما نتيجة سياسات التعليم الهادفة والسياسات الأجرية العادلة التي حافظت على الكوادر.
تركيا كذلك عززت السياسات التعليمة وعملت على استقطاب الكفاءات وتوظيفهم بما يخدم المجتمع التركي.
أما في سورية ونتيجة سياسات التضييق والإفقار والتطفيش التي طالت الكوادر الطبية والعلمية فعدد الأطباء يستمر بالتراجع، ومع استمرار الحكومة بسياساتها الممنهجة لا شك سنصل إلى مرحلة نستورد فيها الأطباء!
قد نستغرب حجم الكارثة المقبلة في حال استمرار السياسات الحكومية الضاغطة، وربما يتهمنا البعض بالمبالغة، إلا أنه وفي عام 2022 أي قبل عامين صرح نقيب أطباء ريف دمشق الدكتور خالد موسى: «إذا بقي الوضع على حاله قد نلجأ إلى استقطاب أخصائيين من الخارج». مشيراً إلى حجم الكارثة التي يعاني منها القطاع الطبي في البلاد، ومؤكداً على الاستنزاف المستمر في عدد الأطباء المهاجرين بحثاً عن فرصٍ أفضل، حتى وإن كانت هذه الفرص في بلدانٍ غير آمنة كاليمن والصومال!

المتسبب بالداء لن يوفّر الدواء!

وفق الأرقام والمؤشرات أعلاه نلاحظ حجم النزف المخيف الذي يتعرض له القطاع الصحي وكوادره، على مرأى من الجهات المعنية رسمياً، التي أعمت أبصارَها عن رؤية الكارثة، وسدت آذانها عن سماع المناشدات، فلم تحرك ساكناً!
وكيف للداء أن يكون هو الدواء؟!
فعلى مدار أعوام عملت الحكومة على انتهاج سياساتٍ مفقرة، أنهكت الشعب السوري ككل، كما أنهكت الطبيب الذي وجد نفسه محاصراً في واقع قاتم سُدت آفاقه، سنوات اختصاص طويلة ورواتب زهيدة لا تكفي تكلفة مواصلات، لتحاصره من الجهة الأخرى أحلامه الموءودة بالعيادة النوعية التي كان يحلم بإنشائها، وبالأبحاث التي سجلت باسمه، ليصطدم بواقع أجور مُخجل لا يكفي ثمن طعام ولا شراب!
فهجرة الأطباء يمكن اعتبارها ظاهرة إلزامية وليست خياراً في معظم حالاتها، ولن تتوقف طالما بقيت الأسباب الاقتصادية والسياسية المورِثة للموبقات مستمرة وتتزايد، وطالما أن جزءاً من دور المنظومة الحالية يقتصر على تنظيم وإعداد وإنتاج الكوادر الطبية لتصديرها ونبذها خارجاً، عبر الهجرة أو التهجير لا فرق!
فالحكومة عبر سياساتها النابذة ونهجها المفقر هي من اتبعت استراتيجية التجريف البشري المنظم للسوريين، بشكل مباشر أو غير مباشر!

أين ذهب الطلاب؟

بالعودة إلى الإحصائيات المنشورة في موقع وزارة التعليم العالي المشار إليها أعلاه، ومن خلال جمع عدد الطلاب في كل عام دراسي مع عدد الطلاب المستجدين، وطرح عدد الخريجين من هؤلاء، نجد أن هنالك فاقداً طلابياً في كل عام دراسي تراوح قبل الأزمة بين 200 إلى 900 طالب، ليقفز الرقم إلى 1300 طالب في العام الدراسي 2012-2013!
وإذا بقي الفاقد الطلابي السنوي على هذا المنوال، وفي ظل عدم وجود بيانات رسمية متاحة، سيصبح 5500 طالب في العام الدراسي 2024-2025، وهي أعداد طلابية كبيرة لم تتم الإشارة إليها في الإحصاءات، وليس لها أية تبريرات رسمية!
فأين يذهب الطلاب في السنوات الدراسية وقبل التخرج؟
نظن أن الإجابة يمكن تلخيصها بالاحتمالات التالية:
- إما تمت عملية نبذهم من التعليم الجامعي، بنتيجة الآليات الامتحانية ونسب النجاح وغيرها، وهؤلاء نسبتهم كبيرة سنوياً في جميع الكليات، ليدخلوا إلى سوق العمل مبكراً بسبب الوضع الاقتصادي الضاغط!
- أو يئسوا من الوضع العام واتجهوا إلى خارج البلاد عند أول فرصة سانحة أتيحت لهم، بحثاً عن فرص أفضل قبل تخرجهم!
- ويبقى احتمال الالتحاق بالخدمة الإلزامية كتبرير لبعض الفاقد بالأعداد، أو احتمال التعرض للمرض أو الوفاة، كتبرير إضافي آخر لا بد من الإشارة إليه!
وجميع الاحتمالات أعلاه هي نتيجة لجملة السلبيات التي يتم حصادها، سواء من خلال السياسات التعليمية المتبعة خلال مرحلة التعليم الجامعي، أو من خلال السياسات الظالمة العامة المطبقة!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1171
آخر تعديل على الإثنين, 22 نيسان/أبريل 2024 07:48