العلم يفنّد الأساطير الصهيونية (الجزء الرابع – صَهْيَنة يهود الشرق)
هاربال برار هاربال برار

العلم يفنّد الأساطير الصهيونية (الجزء الرابع – صَهْيَنة يهود الشرق)

هل كان تيودور هرتزل مؤسّسَ الصهيونية حَقّاً؟ يقدّم الجزء الرابع والأخير من هذه المختارات بعض التفاصيل التاريخية من الأحداث التي تلت اغتيال القيصر الروسي ألكسندر الثاني، عندما تمّ نشر إشاعات حول مخطط «لحلّ روسيّ» للمسألة اليهودية (يتمثّل في تحويل ثلث اليهود إلى المسيحية، وتهجير ثلثهم، وإهلاك الثلث الباقي)، ممّا زوّد البريطانيين بذريعة وفرصة لإقامة اتصالات تنظيمية وتبشيرية وسياسية أوثق مع يهود أوروبا الشرقية وروسيا من أجل صَهْيَنَة تطلعّاتهم وإعادة توجيه حركتهم للهجرة بعيداً عن الأمريكيّتَين ونحو فلسطين.

تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان

نذكّر بأنّ هذه المختارات المُسَلسَلة في أربعة أجزاء مأخوذة (بتصرّف وتلخيص) من الكتيّب المهمّ الصادر عن الحزب الشيوعي البريطاني (الماركسي-اللينيني) عام 2015 بعنوان «الصهيونية – أيديولوجية عنصرية ومعادية للسامية».

الدور البريطاني في صَهْيَنَة يهود الشرق

تمّت مناقشة استخدام اليهود في مصالح الإمبراطورية البريطانية من قبل اللورد بالمرستون والملكة فيكتوريا في وقت مبكر عام 1839 [لا تبدو مصادفةً أنّ ماركس بعد أربع سنوات من هذا التاريخ ألّف «حول المسألة اليهودية»، 1843 – ملاحظة المعرِّب]، إلا أنّ الاقتراح الملموس لحركة استعمارية استيطانية تهدف إلى تحويل فلسطين إلى دولة ليهود العالم ترعاها بريطانيا لم يتم التوصل إليها إلّا مع خطة الكولونيل جاولر التي دعت إلى صَهيَنَة اليهودية وتَهويد الصهيونيّة. قامت بريطانيا من خلال اللوردَين تمبل وشافتسبري، بإرسال فيلهلم هنري هيشلر (1845-1931) للقيام بهذه المهمة، حيث التقى بعد العام 1881 بقادة يهود أوروبا الشرقية واليهود الروس في أوديسا، لنشر الصهيونية باعتبارها «الحلّ الوحيد» لمشكلة اليهود التي خُطِّطَت بعناية بوصفها «معاداة السامية» بدلاً من «رهاب اليهود»، علماً أنّ هذا المفهوم الأخير كان هو الأشيع في ذلك الوقت. التقى هيشلر مع ليو بينسكر وأخبره أنه نسي أن يذكره في كتيّبه «التحرر الذاتي، وعدُ الله لإبراهيم وأبنائه». بهذه الطريقة بدأت المؤسسة البريطانية بحقن صهيونيّتها في حركة التحرّر المحلّية والطبيعية ليهود أوروبا الشرقية في موطن أجدادهم.
كان للقاء هيشلر-بينسكر دورٌ أساسيٌّ في تأسيس جمعية «تعزيز محبة صهيون» وحركة «محبي صهيون». في البداية كانت حركة التحرّر الذاتي التي أسّسها بينسكر حركة غير صهيونية تسعى إلى حل المسألة اليهودية في روسيا عبر استقلال منطقة الاستيطان اليهودية أو الهجرة الجماعية إلى الأمريكيّتين وليس فلسطين (في الحقيقة، هاجر بالفعل حوالي مليوني يهودي من أوروبا الشرقية إلى الأمريكيّتَين بين عامي 1870 و1914). وكان بينسكر يَعتبر «رهاب اليهود»، وليس «معاداة السامية» هي المسألة اليهودية (واختتم كتيّبه بالتأكيد على أنّ الدولة الاستيطانية اليهودية ستتطلب قوة دافعة للهجرة، وأرضاً يجب احتلالها، ودعم القوى الإمبريالية ولا سيّما بريطانيا).
في البداية رفض بينسكر صهيونيّة هيشلر قائلاً: «هدف مساعينا الحالية يجب ألا يكون الأرض المقدَّسة، بل أرضاً خاصة بنا». لكنّ زيارة هيشلر إلى أوديسا أثّرت على العديد من القادة اليهود في روسيا وأوروبا الشرقية بحيث أعادوا النظر في تحرّرهم الذاتي وبخططهم للهجرة إلى أمريكا الشمالية. لمواصلة محاولته تلقين اليهود الروس وأوروبا الشرقية الأفكارَ الصهيونية، انتقل هيشلر إلى فيينا، وقام بالتدريس في جامعة فيينا وعمل في السفارة البريطانية هناك عام 1882. وبعد لقاء هيشلر في أوديسا، بدأ بينسكر بالتعاطف مع الصهيونية وأصبح رئيساً لجمعية «محبّي صهيون».

هل هرتزل مَن أسَّسَ الصهيونية؟

صارت لهيشلر علاقاتٌ وثيقة مع تيودور هرتزل منذ العام 1896، العام الذي نشر فيه هرتزل كتاب «دولة اليهود»، حتى وفاة الأخير عام 1904. وبعد قراءة كتاب هرتزل، شعر هيشلر بسعادة غامرة وسارع إلى إخبار السفير البريطاني مونسون أنّ «الحركة المرسومة موجودة هنا!». شارك هيشلر بدور نشط في المؤتمر الصهيوني الأول في بازل، سويسرا، في آب 1897. ولكنه شعر بخيبة أمل عندما صوّت المؤتمر الصهيوني العالمي السادس عام 1903، بقيادة إسرائيل زانجويل، وبدعمٍ من هرتزل (295 صوتاً مقابل 178) ضدّ فلسطين ولصالح أوغندا وطناً لليهود. كان هيشلر آخرَ من رأى هرتزل وهو يُحتَضر في المصحّة في إدلاخ أوائل تموز 1904.

التحالف الصهيوني-الرجعي العالمي

إضافة إلى قيام هيشلر بتلقين هرتزل التعاليم الصهيونية، كان هيشلر العميل البريطاني الذي تحرّكه اعتبارات إمبريالية ودينية، لا غنى عنها سياسياً لهرتزل، لأنه قدّم هرتزل والصهيونية إلى الإمبراطور الألماني، والقيصر الروسي، والسلطان العثماني، والبابا، ووزيرَين روسيّين (Plehve وWitte)، والعديد من الأشخاص المهمّين الآخرين.
ولتأمين دعمهما، عرض كلٌّ من هيشلر وهيرتزل على القيصر الألماني والقيصر الروسي احتمال أن تساعد الصهيونية في حلّ المسألة اليهودية عبر إضعاف الحركات الثورية والديمقراطية التي يقودها اليهود في أوروبا وروسيا، فضلاً عن قوة رأس المال اليهودي العالَمي. كتب هرتزل فيما يتعلق بالوضع الاجتماعي والاقتصادي لليهود في أوروبا:
«لقد حققنا التفوُّق في مجال التمويل، لأنّ ظروف العصور الوسطى دفعتنا إلى ذلك. يتم الآن تكرار العملية. لقد أُجبِرنا مرّة أخرى على اللجوء إلى التمويل، والآن أصبح سوق الأوراق المالية، وذلك من خلال إبعادنا عن الفروع الأخرى للنشاط الاقتصادي. ولأننا في البورصة، فإننا نتعرض من جديد للازدراء. وفي الوقت نفسه، نستمر في إنتاج وفرة من المثقفين المتوسطين الذين لا يجدون منفذاً، وهذا يعرّض وضعنا الاجتماعي للخطر بقدر ما يعرض ثروتنا المتزايدة للخطر. فاليهود المتعلّمون الذين لا يملكون الوسائل يتحوّلون الآن بسرعة إلى الاشتراكيين. ومن ثمّ فمن المؤكد أنّنا سنعاني بشدة في الصراع بين الطبقات، لأننا نقف في الوضع الأكثر تعرّضاً للخطر في معسكرَي الاشتراكيين والرأسماليين على حدّ سواء». بعد عقدَين فقط استعار النازيّون أفكار هرتزل هذه عندما صوّروا اليهود بأنهم القوة المهيمنة بين الشيوعيين «الحمر» والرأسماليين «الذهبيّين».
وبالإضافة إلى عرضه على رعاته المحتملين تخليصهم من التهديد الثوري ومنافسة الرأسماليين اليهود، صرّح هرتزل، بعنصريّة وشوفينيّة أوروبية سافرة، أنّ الدولة اليهودية «ستشكل حصناً لأوروبا ضد آسيا، قاعدة أمامية للحضارة في مواجهة الهمجية».
لم يكن هرتزل أبداً شخصاً متديّناً، وقال ذات مرة إنّ الدِّين «خيالٌ يقبض على الناس». ولم يكن يفضِّل منطقة معيَّنة حيث كتب بشأن الاختيار بين فلسطين والأرجنتين «سنأخذ ما أُعطي لنا».
في ضوء ما تقدّم، لا يسعنا [الحزب الشيوعي البريطاني الماركسي-اللينيني] إلا أن نتفق مع الاستنتاج التالي الذي توصَّل إليه محمّدين ولد مي:
«اليهود لم يخترعوا الصهيونية، بل الصهيونيّة اخترعت اليهود، مع أنه ليس كلّ اليهود صهاينة وليس كلّ الصهاينة يهوداً. خلال عصر الإصلاح والميركانتيلية، كان البروتستانت مهتمّين باليهود كذخيرة ضد الكاثوليك وقادة القطّاع الرأسمالي الصاعد القائم على الفائدة. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك كتابات مارتن لوثر الصديقة لليهود عام 1523، وإعادة أوليفر كرومويل لليهود إلى إنكلترا عام 1655، وشبه تهويد البيوريتانيين. مع الثورة الصناعية والتنوير الأوروبي، عزَّز نابليون تحرير اليهود في محاولة لإبعادهم عن حكّامهم الأوروبيين والعثمانيين كجزء من خططه الفاشلة لتدمير قوة إنكلترا وروسيا والسيطرة على أوروبا. ثمّ صاغ البريطانيون مجموعة معقَّدة من الدوافع الإمبريالية والدينية لجعل المسألة الشرقية متوافقة مع المسألة اليهودية. وكلّ هذا قبل ولادة مؤسِّس الصهيونية المزعوم (هرتزل) في عام 1860، وقبل تشجيع (معاداة الساميّة) كآلة دفع للصهيونية. مع تغيُّر الوصاية على الصهيونية من بريطانيا إلى الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، لا تزال الصهيونية تشكل تكويناً جيوسياسياً (وليست واقعاً وطنياً) يُسَهِّلُ الهيمنة الغربية متعدّدة الأطراف على الموقع الإستراتيجي للعالم العربي (المضائق والممرّات المائية)، والتراث الثقافي (التاريخ القديم والتوراتي)، والموارد الاقتصادية (احتياطيات النفط والعقود التجارية)، وخطط التوحيد المحتملة...».

المقاومة طريق التحرير

الهوس الإمبريالي المستمرّ بنزع سلاح كلّ دولة في الشرق الأوسط مع الحفاظ على أسلحة الدمار الشامل «الإسرائيلية» هو مثال على استمرارية الصهيونية كبناءٍ جيوسياسيّ يخدم المصالح الإمبريالية في الشرق الأوسط. وإذا كانت الصهيونية كما تدّعي «حركة تحرُّر وطني» حقيقية، فلماذا لمْ تَسعَ إلى تحرير منطقة الاستيطان اليهودية (موطن معظم اليهود) في روسيا؟ وعندما تدّعي أنّها حركة يهوديّة حصرية، فلماذا ترجع أصولها إلى المناقشات والكتابات غير اليهودية في إنكلترا أواخر القرن التاسع عشر؟ كيف يمكن للصهيونية تقديم «المحرقة النازيّة» كذريعة للمحرقة الصهيونية ضد الفلسطينيين؟ ولكن التاريخ يقدم لنا أدلّةً كافية على أن مثل هذا الوضع لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية، ويجب أن ينهار في وجه المقاومة الفلسطينية وإرهاق الحرب الطويلة بين الظالمين والمظلومين.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1155