الشخصية المُغيَّبة لغيفارا كقائدٍ في العلم والصناعة (1)
هيلين يافي هيلين يافي

الشخصية المُغيَّبة لغيفارا كقائدٍ في العلم والصناعة (1)

ارتبطت شخصية الثوري الكوبي إرنستو «تشي» غيفارا بصورته الأيقونية الرومنسية كمقاتلٍ حتى الاستشهاد، وطبيبٍ متمرّد وقائدٍ لثوّار التحرر الوطني، وخطيبٍ يلهب حماسة المناضلين ضد الإمبريالية والظلم عبر العالَم. ورغم أهمّية هذا الجانب من شخصيّته لكن تمّ اختزاله بها، بشكلٍ متعمَّد على ما يبدو، وتغييب شخصيته العِلمية الاقتصادية التي لا تقلّ عنها أهمّية.

تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان

كان اهتمام غيفارا بالعلوم والتكنولوجيا وقبوله بمنصب وزير الصناعة في كوبا الاشتراكية بعد الثورة (بين 1961 و1965) جزءاً من فهمه النظري بأن الشيوعية يجب أن تنشأ من أعلى مرحلة من تطور القوى المنتجة. وأنه كلما ارتفع مستوى الأتمتة والتخطيط، تعاظمت إمكانية السيطرة السياسية الواعية على الاقتصاد، وإحلال التخطيط الاشتراكي مكان قوى السوق.
قاد غيفارا جهوداً كبيرة لتسخير العلوم والتكنولوجيا للتنمية الوطنية. وطوّر نظاماً فريداً للإدارة الاقتصادية للانتقال إلى الاشتراكية في الظروف الكوبية. وكانت سياساته العملية نتاجاً لثلاثة خطوط من البحث (دراسة تحليل ماركس للنظام الرأسمالي، والمشاركة في مناقشات الاقتصاد السياسي الاشتراكي المعاصر، واللجوء إلى التقدم التكنولوجي والإداري للشركات الرأسمالية).
وفي خطابه أمام الأكاديمية الكوبية للعلوم منتصف كانون الثاني1960، بعد عام واحد من استيلاء الثوار الكوبيين على السلطة، أعلن فيدل كاسترو: «إن مستقبل كوبا سيكون مستقبل رجال العلم».
بدا ذلك حلماً بعيد المنال، نظراً للحالة المتخلفة للبحث العلمي الكوبي آنذاك والأمّية الواسعة في البلاد. فانطلقت حملة محو الأمية عام 1961، وقانون إصلاح الجامعات 1962، وإنشاء المركز الوطني للبحث العلمي عام 1965. وبنيت مدارس وكليات وجامعات جديدة. ووصل إلى كوبا آلاف الفنيين والمعلمين والمستشارين من أمريكا اللاتينية والدول الاشتراكية وأماكن أخرى، كما درس آلاف الطلاب الكوبيين في الخارج.

«حرق المراحل» لبناء الاشتراكية

نظر غيفارا إلى الاشتراكية على أنها ظاهرة للتكنولوجيا والوعي. ومن شأن التكنولوجيا المتقدمة، بما فيها الإلكترونيات والأتمتة والحوسبة، تسهيل مكاسب الإنتاجية على أساس الابتكارات التكنولوجية وأحدث التقنيات والضوابط الإدارية من شأنه أن يسهّل على كوبا «حرق مراحل» التنمية، كما أصرّ غيفارا عام 1962 «لا يمكننا أن نتّبع عملية تطور البلدان التي بدأت التطوّر الرأسمالي... أن نبدأ العملية البطيئة لتطوير صناعة ميكانيكية قوية للغاية، قبل الانتقال إلى أشكال أخرى متفوقة، مثل التعدين، ثم المواد الكيميائية والأتمتة بعد ذلك. بل علينا أن نحرق المراحل. وعلينا... أن حاول دائماً الاستفادة من أفضل التقنيات العالمية، بلا خوف».
وبينما كانت حكومة الولايات المتحدة تضغط على الدول الرأسمالية الأخرى لعدم التجارة مع كوبا، اضطرت الدولة الثورية إلى استيراد المعدات من الكتلة الاشتراكية، التي كان بعضها متأخراً بعقدين عن الموجودة في القطاعات المتقدمة من الصناعة الكوبية في عام 1958، كما أوضح إديسون فيلاسكيز، مدير المؤسسة الموحّدة لصناعة النيكل بوزارة الصناعة الكوبية «تبيّن أن العديد من المصانع كانت غير فعالة، لأننا اعتمدنا على ما حققه الروس والمعسكر الاشتراكي، وكانوا متخلفين عن الركب. يمكننا القول إنّ هذه المصانع كانت قديمة. ولم يكن هذا ذَنْبَ تشي، حيث لم يكن اليانكيون [الأمريكيون الشماليون] ليبيعوا لنا مصانع... كان علينا أن نبذل المزيد من الجهد والعمل».
ومع ذلك، اعترف غيفارا بالدعم الأساسي الذي تلقّاه من الدول الاشتراكية، وبالمتخصصين القادمين من جميع أنحاء الكتلة الاشتراكية أو الشيوعيين والمتعاطفين من أمريكا اللاتينية. وأكد غيفارا عام 1964 أن «جميع الدول الاشتراكية التي لديها القدرة على القيام بذلك ساهمت، وتساهم يوماً بعد يوم في ثورتنا، بالحماس نفسه».

الاستفادة من تكنولوجيا الأصدقاء والأعداء

لم يكن غيفارا ينظر بشكلٍ متكاسل أو اتّكالي إلى مساعدات الأصدقاء، بل أصرّ على الاستفادة منها تحديداً من أجل «خلق فنّيين كوبيين يقومون ببناء مصانع كوبية مبنية بآلات صمّمها كوبيون، باستخدام مواد خام محلّية، تمت معالجتها بالتكنولوجيا الكوبية». واعترف غيفارا بدور مساعدة الكتلة الاشتراكية في تخفيف العقوبات الأمريكية وتعزيز الثورة، وقدّر خصوصية الظروف والمرحلة التاريخية، حيث قال عام 1962: «لقد فعل الاتحاد السوفييتي ذلك بمفرده، بلا أصدقاء، بلا رصيد، محاطاً بخصوم شرسين، في خضم صراع مرير، حتى داخل أراضيه. إننا نقوم بذلك في ظروف أفضل بكثير من تلك التي تعيشها جمهورية الصين الشعبية، وتلك التي تعيشها الجمهوريات الشعبية في أوروبا، التي خرجت من حرب مدمرة».
وعارض غيفارا المقاومة الأيديولوجية لنقل التكنولوجيا الأكثر تقدماً من العالم الرأسمالي، وأصرّ عام 1963 على أن «التكنولوجيا ليس لها أيديولوجية في حد ذاتها؛ للجرار وظيفة الحرث... لماذا سنأخذ تكنولوجيا الجرّار الاشتراكي بدلاً من الجرار الرأسمالي، إذا كان الجرار الرأسمالي أفضل؟».
واستشهد غيفارا بتنبُّؤ الاقتصادي البولندي أوسكار لانج في عام 1953 بأن الدول الجديدة التي تدخل الاشتراكية سوف تتكيف مع التكنولوجيا الرأسمالية الحديثة التي ورثتها، مما يسرّع من بناء الاشتراكية.

مشكلة عدم التوافق التكنولوجي

كان عدم التوافق التكنولوجي أيضاً مشكلة، كما أوضح تيرسو ساينز، الذي عُيّنَ مديراً لصناعة النفط المؤمَّمة في عام 1961 «يتم تصميم المصافي وفقاً لنوع النفط الذي ستقوم بتكريره. لكنّ النفط السوفييتي كان مختلفاً عن النفط الفنزويلي الذي تلقيناه من قبل، إذ كان يحتوي على نسبة أعلى من الأملاح والكبريت، مما تسبب بمشكلات تآكل فظيعة؛ كان النفط الخام يلتهم الأنابيب والمعدات وكنّا محاصَرين فلم نتمكن من الحصول على قطع الغيار من أيّ مكان».
ولذلك دعا غيفارا إلى استراتيجية تنمية طويلة المدى لتعزيز التصنيع على أساس الموارد الداخلية مع الاستثمارات بالعلوم والتكنولوجيا للتغلّب على الاعتماد على الخارج، وكان مدركاً لأهميّة التركيز على المزايا النوعية الخاصّة لموارد بلاده الوطنية، فأعلن غيفارا في عام 1962 «علينا توجيه أنفسنا نحو أربعة خطوط من التنمية: التعدين، والبناء البحري، والإلكترونيات، والمشتقات الكيميائية من السكر».

دوره في تأسيس البحث العلمي الصناعي

لمعالجة نقص التدريب والبنية التحتية الكافية في المؤسسات الأكاديمية القائمة، أنشأ غيفارا تسع مؤسسات للبحث والتطوير داخل وزارة الصناعة، مع التركيز على مشتقات قصب السكر والمعادن والفلزات والصناعة الكيميائية والمنتجات الثانوية الزراعية والصناعة الميكانيكية والتكنولوجية، والابتكار والأتمتة. بحيث يبدأ هذا الإطار المؤسسي التجريب على طرفي سلسلة الإنتاج؛ المواد الخام والتصنيع في وقت واحد.
لم يكن ممكناً أن تؤتي هذه المشاريع ثمارها على المدى القصير، ولكن الأكثر أهمية من الإنجازات الإنتاجية المباشرة كانت المنهجية التي تم تقديمها، وتطبيق العلم والتكنولوجيا على الإنتاج.
في عام 1964، كانت هذه المعاهد البحثية تحصل على 53.2% من إجمالي ميزانية وزارة الصناعة، مما يعكس أولويّتها العالية. وكانت هذه المراكز موجودة خارج مبنى الوزارة ولكنْ مندمجة ضمن الهيكل التنظيمي والمالي لمكتب الخدمات المالية، وتتلقى ميزانية مخططة للاستثمارات والرواتب، وتعمل ببعض الاستقلالية.
ولغرض التحليل تم تقسيم أجهزة البحث إلى ثلاث فئات: أولاً، المعنية بصناعة السكر. ثانياً، المنطوية على استخراج واستغلال الموارد الطبيعية (باستثناء السكر حيث تعمل عليه مؤسسة مستقلة). وثالثاً، البناء البحري، والإلكترونيات، والأتمتة.
عندما غادر غيفارا كوبا في عام 1965، تمّ إهمال معاهد البحث والتطوير داخل الوزارة. واستمر هذا نحو عامين، بحسب بوريغو دياز الذي قال عام 2005 «لقد كان خطأ من جانبنا، ولكن لحسن الحظ أدركنا ذلك بسرعة وأعدنا التركيز عليهم.”
بحسب خورخي رويز فيرير، الذي كان متعاوناً وثيقاً مع غيفارا بوزارة الصناعة، سعى غيفارا إلى تطبيق المعالجة الحاسوبية لتحسين الإنتاج. بعد تقسيم وزارة الصناعة، أصبح رويز نائباً لوزير المعادن والفلزات الجديدة حيث طبق تلك الأساليب التي تمت تجربتها مبدئياً لأول مرة بالاستفادة من بحث في عملية التعدين باستخدام جهاز كمبيوتر استورده غيفارا خصّيصاً من إنكلترا، فاستطاعت البلاد بفضل ذلك توفير ملايين الدولارات.

أهمية المنهج كأساس

يرى رويز أنه رغم النتائج المتواضعة آنذاك غير أن الإنجازات اللاحقة كانت إرثاً مباشراً للمنهجية التي روّج لها غيفارا بالذات، ويمكن القول، إن الإنجاز الحقيقي لغيفارا كان تقديم منهجية لتطبيق العلم والتكنولوجيا في الإنتاج، وفرض تلك الأجندة على استراتيجية التنمية الوطنية، وبدء التدريب اللازم والبنية التحتية البحثية، بما في ذلك الاستثمار في البحوث المختبرية والتجريبية.

لقراءة الجزء الثاني من هذا المقال، اضغط هنا

معلومات إضافية

العدد رقم:
1156
آخر تعديل على الأحد, 04 شباط/فبراير 2024 11:12