خطاب يحاكي الفشل

جاء خطاب عباس الأخير من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، ليعيد إنتاج الموقف الضعيف، المربك، الذي لم يكن عمره عاما واحداً، كما حاول بعض الكتاب والمحللين أن يحدده به، بل هو نتاج نهج وخطة عمل، ترسمت بشكلها العلني، المباشر، قبل تسعة عشر عاماً مع توقيع اتفاق المبادىء _سيئ الصيت_ في أوسلو. لهذا كان الخطاب الجديد، جردة حساب بالعجز، لم تقدم للعالم سوى بكائية حزينة، على وضع ساهم صانعو الاتفاق الكارثي، برسم نكباته على الشعب والأمة.

مابين خطاب الخميس 27 / 9 وخطاب العام الفائت من على المنصة نفسها، دخلت القضية في تعقيدات جديدة، دفع شعبنا من دمه وصموده فيها الكثير. ومما قاله الخطاب في هذا الجانب « خلال عام مضى منذ انعقاد الدورة السابقة للجمعية العامة واصلت سلطات الاحتلال حملتها الاستيطانية مركزة على القدس ومحيطها... تمارس تطهيراً عرقيا بحق المواطنين الفلسطينيين بهدم البيوت ومنع البناء ومصادرة الهويات والحرمان من الخدمات الأساسية خاصة في مجال الأبنية المدرسية، وإغلاق المؤسسات وإفقار المجتمع المقدسي عبر حصار الحواجز والجدران الذي يخنق المدينة ويمنع ملايين الفلسطينيين من الوصول الحر إلى مساجدها وكنائسها وإلى مدارسها ومستشفياتها وأسواقها. كما واصلت فرض حصارها الخانق وغاراتها واعتداءاتها على أبناء شعبنا في قطاع غزة الذي ما زال يعاني إلى الآن من الآثار الكارثية للحرب العدوانية المدمرة التي شنت عليه منذ سنوات، وتواصل أيضاً اعتقال نحو خمسة آلاف من أسرى الحرية الفلسطينيين في سجونها.كما أقدمت سلطات الاحتلال خلال الشهور الاثني عشر الماضية على هدم 510 منشآت فلسطينية في هذه المناطق وتشريد 770 مواطنا من أماكن إقامتهم».

لم يكن الكشف الذي قدمه عباس في خطابه سوى الجزء البسيط والمحدود من المعاناة اليومية للشعب. وفي هذا المجال، تبرز الهجمة التهويدية على القدس وأراضي الضفة الفلسطينية، مراحلها المتقدمة. وتشير آخر الإحصاءات إلى أن عدد «المستوطنين» المستعمرين في الضفة بما فيها الشطر الشرقي من القدس المحتلة تجاوز ال 650 ألفاً، وأن عدد المستوطنين في الضفة حالياً هو أكثر من 350 ألف مستوطن، ما يعني تزايد عددهم بنسبة 5 .40%، وأن عدد المستعمرين في مستعمرات الشطر الشرقي من القدس المحتلة 300 ألف تقريباً، وأن عددهم في مستعمرة»أريئيل» يقارب 50 ألفاً، وفي مستعمرة «معاليه أدوميم» يزيد على 45 ألفاً، وفي مستعمرة «غوش عتصيون» يقارب 22 ألفاً.

هذا التقديم / الشرح للمجتمع الدولي، لم يجد صداه لدى أبناء الشعب الذي كان يتوقع الحديث عن أسلوب المواجهة لهذه الاعتداءات الوحشية اليومية. ولهذا، وبعد سنة من المعاناة الشعبية المتجددة من الاحتلال، ومن الظلم والقمع والغلاء والفساد، الناتج _ كما حددت قوى الشعب المنتفض بوجه الاحتلال والسلطة _ عن أوسلو وملحقاته الإقتصادية والأمنية، لم تتكرر كرنفالات الاحتفال بـ» كرسي الدولة «، المنطلقة مع معركة «استحقاق أيلول» عام 2011 . إن غبار تلك المعركة التي حجبت عن عيون الكثير من أبناء شعبنا حقيقة الوهم الذي حملته، وواقع الفشل/النتائج التي تمخضت عنها، من حيث عدم الحصول على أية صفة بالجمعية العامة، لم تستطع رغم كل نداءات السلطة وحزبها أن تأخذ شعبنا مرة أخرى لسراب جديد، كما جاء في صحيفة الحياة اللندنية لمراسلها في رام الله المحتلة يوم 29 / 9  « تلقى الفلسطينيون ببرود لافت خطاب الرئيس محمود عباس في الأمم المتحدة... ولم يستجب أحد لدعوة وجهتها حركة «فتح» الى المواطنين للتجمع في ميدان المنارة وسط رام الله قبيل إلقاء الرئيس خطابه للتعبير عن التأييد له، في حين تدفق عشرات الصحافيين إلى الموقع، لكنهم لم يجدوا سوى أنفسهم هناك. وطاف ناشطون من «فتح» شوارع المدينة وهم يطلبون من الجمهور، عبر مكبرات الصوت، التجمع في الميدان، لكن أحداً لم يستجب» .

إن الفشل الذي تكللت به معركة «استحقاق أيلول» كان بسبب عدم التدقيق بمواقف الدول الفاعلة بمجلس الأمن، خاصة الإدارة الأمريكية، المنحازة لكيان العدو.هذا إذا،تجاوزنا، أن طلب العضوية لم يكن سوى» قفزة في الهواء» حاولت ذات الأدوات في هذا العام، إعادة تكرارها بعجز أكبر وأوضح، وبإصرار على تأكيد الاعتراف للعدو الصهيوني بوجوده على 78% من أرض فلسطين، على الرغم من أن الأمم المتحدة كمرجعية قانونية هي صاحبة قرار تقسيم فلسطين « القرار 181» الذي يعطي الفلسطينيين 45% من أرض وطنهم. في هذا العام، قرر وفد السلطة تقديم طلب للحصول على مكانة عضو مراقب .علماً بأن منظمة التحرير الفلسطينية كانت قد حصلت على العضويّة المراقبة منذ العام 1974 ولم تؤدِّ تلك العضوية لأية تغييرات جوهرية على أرض الصراع المباشر. لكن اللافت للنظر،أن الطلب لم يقدم بعد انتهاء الخطاب، بل تأجل لما بعد انتهاء الانتخابات الأمريكية في الأسبوع الأول من شهر نوفمبر/تشرين ثاني القادم، «بناء على طلب أمريكي، تجنباً لإغضاب إدارة الرئيس باراك اوباما في فترة الانتخابات التي غالباً ما يتخذ المتنافسون فيها خطوات متطرفة لارضاء اللوبي اليهودي»، على حد قول أكثر من مصدر مطلع.

  لم يعد الحديث مجدياً عن حل الدولتين، لأن ماهو مطروح حقيقة، ضم غير معلن لأراضي الضفة، وتهويد مستمر لكل التلال الاستراتيجية، والأراضي الغنية بالمخزون المائي. كما أن الحديث عن هدم جدار الضم الاحتلالي العنصري، أجدى من كيل المديح لـ»كوة « فُتحت مواربة في الطريق المسدود المؤدي إلى المفاوضات. أما «مؤسسات الدولة القادرة على صياغة نموذج متقدم لدولة عصرية فعالة، عبر تطوير أداء مؤسساتها ودوائرها، وإدارة المال العام باعتماد معايير متقدمة، واعتماد الشفافية والمساءلة الحازمة، وقواعد الحكم الرشيد « فلا يعتد لها، بشهادات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، المؤسستين، الأكثر شبهة في دورهما بتدمير التنمية الوطنية في أكثر من بلد، والأشهر في خطط الإلحاق بالسوق الرأسمالية المتوحشة. هذه المؤسسات التي كشف فسادها وارتباطها بالمحتل، شباب وشابات الضفة في مظاهراتهم المتكررة.

إن أرضنا ليست موعودة بنكبة جديدة يُحَضّر لها العدو، فهي تعيش في كل دقيقة نكبتها المتجددة منذ الغزو الاستعماري/الاحتلالي/الصهيوني لوطننا. ولهذا فمواجهة النكبات تتطلب وحدة الشعب حول برنامج مقاوم.

إن الوطن الذي أنجب المئات من مبدعيه،أمثال محمود درويش وادوار سعيد، يفخر بأنه قدم لقضيته التحررية : فؤاد حجازي وعطا الزير وعبد الرحيم محمود وصالح برانسي وغسان كنفاني وجورج حبش ووديع حداد وخليل الوزير ودلال المغربي وفتحي الشقاقي، والآلاف الذين مضوا في درب المقاومة الباسلة، في نهج الكفاح المسلح، التي ترسم طريق التحرير لكل المتعطشين للعودة لوطنهم. إن شعباً قدم هذه النماذج التي صنعت تاريخه الحديث، قادر على إدامة الاشتباك مع العدو، وصولاً لتحرير وطنه، إنطلاقاً من مشروعه الوطني/القومي التحرري، في ظل قيادةٍ، تكون جديرة بتضحياته وأهدافه.